في بيان مطول أصدرته عشية مثول زعيم البوليساريو أمام القضاء الإسباني، قالت الخارجية المغربية، “إن الدفاع الشرعي عن المواقف لا يمكن أن يكون ابتزازا، ولا يعادله بأي شكل من الأشكال”. ومن الواضح أن الألمان كانوا هم المعنيين بذلك التوضيح، وأنه جاء في سياق الرد على ما قاله وزير الدولة الألماني للشؤون الأوروبية، السبت الماضي، لصحيفة “الباييس” الإسبانية من أنه على “الاتحاد الأوروبي أن لا يسمح للمغرب بابتزازه”.
وعلى أي حال يبدو أن الألمان والإسبان باتوا متفقين على رمي الكرة نفسها في المرمى المغربي، مع أنه لا شيء يدل على أن المغاربة قد ألقوا بالاً أو أعطوا أهمية لتحذيرات الوزير الألماني للأوروبيين، أو شعروا بالأسى والحسرة، لأن جيرانهم في الشمال لن يحضروا هذه السنة كعادتهم مناورات الأسد الافريقي، أما لأن السلطات المغربية، رفعت فيتو في وجههم، أو لضيق ذات يدهم، ولأسباب مالية مثلما ادعت وزارة دفاعهم.
غير أن المؤكد أن غيابهم عن تلك المناورات العسكرية الضخمة، التي سيجري جزء منها الأسبوع المقبل في الصحراء، لن يقلل من أهمية اشتراك “نحو عشرة آلاف عسكري مغربي وأمريكي وآخرين من ثماني دول وملاحظين من إحدى وعشرين دولة فيها”، “ما يعتبر تتويجا للاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء”، كما جاء السبت الماضي في تغريدة لرئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني على حسابه على تويتر. أما ما قد يجنونه من ذلك الغياب بالمقابل، فهو أنهم سيحصلون، وبعد سنوات من المواربة واللعب على حبلين، على الموقف الحقيقي لمدريد، مما يعتبرونها قضية وحدتهم الترابية، نقيا وخاليا من أي إضافات، أو منكهات دبلوماسية مغشوشة، من قبيل الحديث الطويل عن العلاقات الاستراتيجية، وروابط حسن الجوار، التي تجمع البلدين. وهذا قد لا يكون في حد ذاته بالأمر البسيط والهين، وبغض النظر إن كان ذلك سيؤشر إلى بدء العد التدريجي لنهاية الازدواجية الإسبانية في التعامل مع المغرب، فإن ظلاله الكثيفة ستمتد على مجمل علاقة الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط. والسؤال هنا هو كيف ينظر الليبيون والتونسيون والجزائريون والموريتانيون لتطورات الأزمة الأخيرة بين المغرب وإسبانيا؟
من الواضح جدا أنه إن استثنينا الجزائريين والموريتانيين بدرجة أقل، فلا شيء يدعو للاعتقاد بأن الباقين يعتبرون ما حصل أكثر من كونه خلافا ثنائيا لا انعكاسات منتظرة له على المنطقة المغاربية.
حتى الآن لا يستعجل المغاربة حرق مراكبهم وقطع شعرة معاوية مع جيرانهم الشماليين
لكن ما يجري على الضفة المقابلة هو العكس تماما، فالأوروبيون وعلى اختلاف مصالحهم واهتماماتهم بالشمال الافريقي، ظهروا بقوة ومنذ الأيام الأولى للخلاف الذي فجره استقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو، ورغم أن ردة فعلهم لم تكن مباشرة، أو سريعة، مثلما أن مواقفهم لم تكن موحدة، فإنهم حرصوا على أن لا يكون شركاؤهم الإسبان معزولين، أو وحيدين في مواجهة جارتهم الجنوبية. ولا شك في أن التضامن الأوروبي مثل للإيبيريين متنفسا مهماً كانوا بحاجة له، أمام فشلهم في استخدام أسلوب المرور بقوة، وفرض الأمر الواقع على الرباط. وبات أقوى سلاح بأيديهم هو سلاح أوروبا المهددة في وحدة وسلامة أراضيها وأمنها. أما على الطرف المقابل فلم يعول المغاربة على العمق الإقليمي لسبب بسيط، وهو أنهم لا يعتقدون حتى في حال تصاعد الأزمة ووصولها لمرحلة الحرب، أن تنحاز الدول المغاربية الأربع لهم بشكل تلقائي، كما أنهم ينظرون للجزائر بالتحديد على أنها طرف في المشكل القائم مع إسبانيا، الذي كانت شرارته استقبالها إبراهيم غالي، وبالتالي فهم لا يتوقعون أن تكون جزءا من الحل الممكن له. لكن كيف يمكن أن تدار معركة غير متكافئة بين إسبانيا المدعومة، ولو بشكل محدود، من أوروبا، والمغرب الذي لا يملك ولو حدا أدنى من الإسناد المغاربي؟ من المؤكد أن ما فهمته الرباط جيدا هو أنه من الضروري أن تنتزع الورقة الأوروبية من أيدي الإسبان، وهو ما سعت إلى تحقيقه، رغم المحاولات التي بذلتها مدريد لتحويل الأنظار عن السبب الأصلي للمشكل، خصوصا من خلال تصوير وصول آلاف المغاربة إلى ثغر سبتة المحتل، على أنه يشكل “أزمة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب”، مثلما صرح بذلك رئيس الوزراء الإسباني، الاثنين قبل الماضي، لكن ما الذي جعل بيدرو شانشيز يقفز بعدها ليقول، في التصريح نفسه، إن “المغرب ليس لديه من حليف أفضل أو أكبر داخل الاتحاد الاوروبي من إسبانيا للدفاع عن مصالح استراتيجية مهمة للرباط وللاتحاد الأوروبي”؟ هل أراد بعد التلويح للمغاربة بالعصا الأوروبية أن يرمي لهم بجزرة؟ أم أنه كان يشير بطريقة ما إلى أن إسبانيا لم تعد مثلما كانت صوت بروكسل في المغرب، وصوت المغاربة في بروكسل، وأن مدريد فقدت مكانتها تلك، ربما لصالح دولة أوروبية أخرى صارت محل ثقة الرباط؟ حتى الآن لا يستعجل المغاربة حرق مراكبهم وقطع شعرة معاوية مع جيرانهم الشماليين. فلا شيء يدل على أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين قد تأثرت بشكل عميق بالتطورات الأخيرة بينهما، كما أن المغرب لايزال يصر على التفريق جيدا بين الحكومة الإسبانية والشعب الإسباني. ولكن إشارة وزير الخارجية المغربي الناصر بوريطة، في اليوم نفسه الذي خرج فيه شانشيز بتصريحه إلى أن “مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس”، قد تشكل ردا مباشرا على ما قد يكون تهديدا وإغراء في الوقت نفسه من جانب مدريد للرباط، ورسالة لا لبس فيها من أنه لن يكون ممكنا بعد الآن أن تستمر إسبانيا في سياسة ابتزاز المغرب، التي انتهجتها منذ السبعينيات في ملف الصحراء، لأن المغرب بات قادرا على أن يحرك، ولو بطريقة غير رسمية حتى الآن ملفا آخر هو ملف بلداته وجزره المحتلة. ومن الواضح أن المسؤولين الإسبان يعون جيدا ما قد يعنيه ذلك، غير أن الورقة التي بقيت بأيديهم هي الاستثمار للاخر في الخلافات المغربية الجزائرية. والإشكال هنا هو أنه ليست مدريد وحدها من تسعى، أو ترغب في النفخ في تلك الخلافات، واللعب عليها، فجزء من الأوروبيين على الأقل يشاطرها ذلك الموقف. ولعل هذا ما دفع وزير خارجية المغرب لأن يقول أوائل العام الجاري، في مؤتمر نظم لدعم مغربية الصحراء، وبشكل واضح أنه “يجب على أوروبا أن تخرج من منطقة الراحة، بمعنى أن هناك عملية تفاوض ونحن ندعمها، رغم أن هذه العملية يمكن أن تستغرق عقودا”، لكن كيف يمكن أن يحصل ذلك في وقت انهارت فيه الثقة بين المغاربة والإسبان، ومن ورائهم جزء كبير من الأوروبيين؟ ربما سيكون تقديم نوع من التطمينات أو الضمانات للمغرب، مثلما جاء في بيان خارجيته الأخير مطلوبا، لكن هل تستطيع مدريد وباقي العواصم الاوروبية فعل ذلك؟ أم أنه سيكون صعبا عليها تغيير أساليبها القديمة؟ الثابت في كل الأحوال أن ساعة رحيل عصر الابتزاز الأوروبي للرباط باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى.