يلوح التفريق بين الإرهاب والتطرف مسألة شائكة جدا وذلك بسبب شيوع التطرف والإرهاب لهدف واحد؛ حيث يمكن رسم معادلة الاختلاف بينهما باعتبار أن التطرف يرتبط بالفكر والإرهاب يرتبط بالفعل. ويتعلق التطرف بأفكار بعيدة عمّا هو معتاد ومتعارف عليه اجتماعيا ودينيا دون أن ترتبط تلك الأفكار بسلوكيات مادية عنيفة في مواجهة المجتمع أو الدولة. أما عندما يتحول الفكر المتطرف إلى أنماط عنيفة من السلوك، من اعتداءات على الحريات أو القتل أو تشكيل التنظيمات المسلحة التي تستخدم في مواجهة المجتمع والدولة، فإنه عندئذ يتحول إلى إرهاب.
مدريد- يكشف تحليل الروابط الاجتماعية والنفسية التي تربط مجموعة من الشباب المتشددين في إسبانيا مثلا بمختلف الفاعلين من الحركة الجهادية العالمية أن عدد وقوة هذه الروابط لهما علاقة بانخراط بعض الأفراد في أنشطة إرهابية وعدم انخراط آخرين في ذلك.
ويتطلب شرح سبب قيام البعض بذلك وعدم قيام البعض الآخر به تحليل نوع وعدد وكثافة علاقاتهم الشخصية مع النشطاء الجهاديين والهياكل المخصصة للتعبئة الإرهابية.
وبناءً على دراسة للروابط التي تخللت عينة من الشباب الذين سلكوا مسارات متعارضة بعد تطرفهم في إسبانيا من 2012 إلى 2019 تم الكشف عن ميل أكبر نحو التورط الإرهابي بين الأشخاص المتطرفين الذين كانت روابطهم الاجتماعية مع الجهادية العالمية أكثر عددًا وقوة.
وتظهر الدراسة أهمية الشبكات الاجتماعية في التطرف الجهادي والتجنيد؛ فأولئك الذين يتبنون الأيديولوجيا الجهادية، حتى في حدود تسهيل أعمال العنف والمشاركة فيها، كثيرًا ما يفعلون ذلك برفقة أفراد إما متطرفون بالفعل أو هم في طور التطرف.
وفي هذا التفاعل الاجتماعي يبني أعضاء المجموعة المعنية وجهات نظر مشتركة ويشكلون هوياتهم المجتمعية، وقد ينتهي بهم الأمر إلى الاستعداد للانخراط في الإرهاب.
الفكر غير الفعل
كلارك مكولي: الأعمال الإرهابية تمثل نسبة ضئيلة ممن يتعاطفون مع التطرف
توضح الأدلة المحيطة بالوضع في إسبانيا أن 90 في المئة من المدانين والجهاديين المتوفين بين عامي 2012 و2018 أصبحوا متطرفين في اتصال مع أشخاص آخرين.
وقبل عمليات التطرف والتجنيد الخاصة بهم كانت لثلاثة أرباعهم علاقات اجتماعية مع جهاديين نشطين آخرين داخل وخارج البلاد. ومع ذلك ليس بالضرورة أن يشارك كل الأفراد الذين أصبحوا متطرفين في أنشطة إرهابية.
ثمة مفارقة مهمة حول ظاهرة الإرهاب والتطرف تقول بأن غالبية الأفراد من أصحاب الآراء المتطرفة لا يقومون بأفعال إرهابية. وقد نادى باحثون متخصصون في دراسة الإرهاب بضرورة الفصل بين “تطرف الرأي” و”تطرف الفعل”، بعد أن لاحظوا وجود خلل جوهري اعترى ذلك الجهد البحثي المتراكم الذي تناول ظاهرة الإرهاب عبر عشرات السنين؛ إذ جرى التعامل مع التطرف في الرأي (أو “راديكالية الرأي”) على أنه مرادف للإرهاب أو مقدمة حتمية لحدوثه، وبالتالي جرى التعامل مع مَن لديهم أفكار متطرفة على أنهم إرهابيون محتملون.
وتطرح البحوث العديد من الأسئلة المشروعة حول العوامل التي قد تدفع البعض إلى التطرُّف العنيف المتبوع بالانخراط في العمليات الإرهابية في حين لا يفعل ذلك أقرانهم من حاملي الآراء المتطرفة ذاتها؟ وكيف يصبح الأفراد متطرفين؟ وكيف يتم التقدم من مرحلة اللاعنف إلى التطرف ثم إلى الإرهاب؟ وما هو الدور المنوط بالمجتمعات المحلية لمنع الشباب من تبنِّي التطرف العنيف؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة أعد الباحثان كلارك مكولي وصوفيا موسكالينكو، من كلية برين ماور الأميركية، دراسة جاءت تحت عنوان “فهم التطرف السياسي: نموذج الهرمين”، انتهيا فيها إلى صياغة النموذج الهرمي ثنائي المحاور للتفرقة بين التطرف في الرأي والتطرف في الفعل، قائلين إن الخلط بين النسقين يضر ضررًا بالغًا بمعالجة القضية، وقد يؤدي إلى تزايُد وتيرة العنف والإرهاب جَرَّاء توجيه إجراءات مكافحته في صورة عقاب جماعي لأفراد أو جماعات لمجرد انتمائهم إلى فكر أو عقيدة معينة.
ويرى الباحثان أن التشدد الفكري يختلف عن ذلك الذي يقود أصحابه إلى الإتيان بأفعال متطرفة أو إرهابية، فهما حسبهما ظاهرتان مختلفتان من المنظور النفسي.
ولذلك يقترحان نموذج “هرم الرأي” الذي يتألف من أشخاص يتشاركون مستويات متسارعة من الأفكار المتطرفة، ونموذج “هرم الفعل” الذي يتضمن مستويات تتراوح ما بين السلبية إلى النشاط القانوني والعنف السياسي والإرهاب.
ويأتي في قاعدة تطرف الرأي الأفراد الذين لا يهتمون بقضية سياسية (المحايدون)، وتلي تلك الطبقة طبقة أخرى تضم أولئك الذين يؤمنون بقضية لكنهم لا يبررون العنف، وهؤلاء يُطلَق عليهم اسم “المتعاطفون”، ثم يأتي في الطبقة التالية أولئك الذين يبررون العنف دفاعًا عن قضية أو معتقد.
الفاعل الذي لديه قابلية للتطرف ينتقل نحو التطرف الفكري، ثم التطرف العنيف، ثم الإرهاب، عبر عملية ينتقل فيها من مرحلة إلى المرحلة التي تليها من خلال تطور متدرج يتعرض فيه لعمليات نفسية وإدراكية معقدة
وأما هرم تطرف الفعل فيأتي في قاعدته الأفراد الذين لا يفعلون شيئًا لصالح جماعة سياسية أو قضية، ويُطلَق عليهم اسم “خاملون”، ثم يأتي في الطبقة الأعلى من الهرم أولئك الذين يشاركون في أفعال أو أنشطة قانونية أو سياسية لمناصرة قضية أو جماعة سياسية، ويُطلَق عليهم اسم “النشطاء”، ويليهم في الطبقة الأعلى الأفراد الذين ينخرطون في أعمال غير قانونية من أجل القضية أو الجماعة، ويُطلَق عليهم اسم “الراديكاليون”، وفي قمة الهرم يأتي أولئك الذين يقومون بأعمال غير قانونية تستهدف المدنيين، وهؤلاء يُطلَق عليهم اسم “الإرهابيون”.
ويذهب مكولي إلى أن مَن يمارسون أعمالًا إرهابية عنيفة يمثلون نسبة ضئيلة جدًّا ممن يتعاطفون مع فكر متطرف أو يتبنونه أو يعتنقونه.
ويقول أحد أهم الباحثين وهو جون هورجان، أستاذ علم النفس في جامعة ولاية جورجيا، موضحا سبب الخلط بين الراديكالية في الرأي وراديكالية الفعل أو الإرهاب “عندما أصبح من الصعب جدًّا التنبؤ بالإرهاب، تحول البحث نحو التركيز على التطرف كمرادف للإرهاب، وإذ أنه من السهولة بمكان الكشف عن الأفراد الذين يتم تحويل أفكارهم إلى أفكار متطرفة فقد أضحى مفهوم القضاء على التطرف بديلًا موضوعيًّا عن مفهوم استباق الفعل الإرهابي”.
وقام هورجان -الذي يُعَدُّ أحد أهم المراجع العالمية في دراسات الإرهاب- بمقابلة العشرات من الإرهابيين السابقين، فتوصل إلى أن سؤال الإرهابي عن الدوافع التي اضطرته إلى القيام بما قام به غالبًا ما تكون الإجابة الصادقة عنه “لا أدري حقًّا”.
ويرى هورجان أن دوافع السلوك الإرهابي شديدة التعقيد، إلى درجة أن مَن يقومون بالعمل الإرهابي أنفسهم قد لا يدركونها بوضوح في الكثير من الأحيان.
وهورجان، الذي أجرى مقابلات مع مُدانين بالإرهاب من أيرلندا وإنجلترا وباكستان ولبنان والولايات المتحدة، يؤكد أن سؤال “لماذا فعلت” ليس هو السؤال الفعال الذي يمكن أن يصل بنا إلى فهم دوافع الإرهابيين، وأن الأكثر وَقعًا وفاعلية هو أسئلة مثل: متى التحقت بـ”داعش”؟ مثلًا، ماذا كان شعورك وقتها؟ ماذا كنت تفعل في حياتك في ذلك الوقت؟ كيف تم التواصل معك؟ أو كيف تواصلت معهم؟
وبعد إجرائه دراسات عدة على غربيين التحقوا بالقتال في سوريا والعراق يعتقد هورجان أنه بينما يعرف البعض منهم بعض الدوافع بوضوح فإن الكثيرين منهم ليس لديهم أدنى فكرة عن الصراع الطائفي والمذهبي الذي يُلقون بأنفسهم في طياته.
ديناميكيات محفزة
الكثيرون ممن ينفذون أعمالًا إرهابية لا يعتنقون فكرًا متطرفًا من الأساس، كما تشير العديد من الدراسات، إلا أن هناك العديد من الديناميكيات التي تخلق لدى الأشخاص دوافع للقيام بأعمال إرهابية بخلاف الدافع المعتاد الحديث عنه وهو اعتناق فكر متطرف.
ويقول مكولي “يجب التركيز على العامل الشعوري النفسي والديناميكيات المتنوعة التي تخلق دوافع عديدة لدى بعض الأشخاص للانخراط في الإرهاب والعنف في الكثير من الأحيان دون تبني أجندة فكرية متطرفة أو حتى التعاطف مع فكر متطرف معين”.
ويضيف “من بين هذه الديناميكيات على سبيل المثال: إحساس الفرد بالظلم، أو إحساس فئة معينة في المجتمع بالظلم، أو الرغبة في الهروب من المشكلات، أو البحث عن مكانة أكبر أو قوة أكبر، أو الارتباط الشعوري (الحب) بأفراد منخرطين في أعمال إرهابية”.
ويرى مكولي أن المسافة بين التطرف في الرأي والتطرف في الفعل كبيرة جدًّا، بمعنى أن “قرار القيام بعمل إرهابي يلزمه دوافع مختلفة تمامًا عن دوافع تبنِّي رأي متطرف”، ويشدد على أن “النتائج المترتبة على كلٍّ منهما تختلف اختلافًا كبيرًا”.
ومن خلال دراسته لتاريخ تطوُّر الإرهاب يؤكد مكولي أن محاولات الربط بين الانخراط في الإرهاب والحالة النفسية للمنخرطين “غير مجدية، فنتائج رصد معدلات تلك المعضلات النفسية أو الاجتماعية لدى المنخرطين في أعمال عنف لم تتجاوز المعدلات نفسها التي رُصدت في الأوساط الطبيعية، كما أن الكثير منهم لا يعانون أصلًا من مثل تلك المشكلات”.
ويشير إلى أن العديد من المنخرطين في العنف والإرهاب “يقومون بإعمال إرهابية على نحو مفاجئ في فترات قد لا تتجاوز عدة أيام أو أسابيع من تبنِّيهم موقفًا ما من قضية معينة”.
ثمة مفارقة مهمة حول ظاهرة الإرهاب والتطرف تقول بأن غالبية الأفراد من أصحاب الآراء المتطرفة لا يقومون بأفعال إرهابية
وينتقل الفاعل الذي لديه قابلية للتطرف نحو التطرف الفكري، ثم التطرف العنيف، ثم الإرهاب، عبر عملية ينتقل فيها من مرحلة إلى المرحلة التي تليها من خلال تطور متدرج يتعرض فيه لعمليات نفسية وإدراكية معقدة؛ فالتورط في الإرهاب هو عملية تتكون من مراحل خفية، أولاها أن يتحول الإنسان إلى إرهابي، ثم أن يصبح إرهابيا بالفعل، وهذا يعني استمراره في حالة التورط والاشتراك في أنشطة هجومية.
وهناك وقائع تنقل الفرد إلى عالم التطرف العنيف من عالم التطرف الفكري، منها مثلا أن المنطقة التي يعيش فيها منطقة اضطرابات أو منطقة صراع سياسي حاد، وأن أحدا من أصدقائه أو أقاربه أو زملائه قد تعرض للأذى، وهنا يفكر في محاولة الثأر أو الانتقام. كما أن التأثر بالقيادات التي هي في نظره عناوين للمثالية قد يسهم في تبني العنف والتطرف العنيف بمنطق الطاعة ذات الطابع المقدس. ثم أن وجود حالة من التجربة المشتركة لما يعتبره المتطرف الفكري نوعا من التشارك في احتمالات التطرف العنيف، أو مواجهة الضغوط السياسية والاجتماعية من أجل التصدي لما يعتبر تهديدا للأهداف المشتركة للجماعات المتطرفة، يقود إلى التورط في الإرهاب والعنف.