كريمة بنيعيش دبلوماسية اقتصادية مسلّحة بثقافتين

ماموني

أمام ارتفاع منسوب تأزم العلاقات المغربية – الإسبانية في الآونة الأخيرة برز اسم كريمة بنيعيش، السفيرة المغربية لدى إسبانيا كإحدى الشخصيات التي تعمل في الصف الأول لتوضيح وجهات نظر المغرب والدفاع عن مصالحه ولتطوير أساليب تدبير الأزمات المتتالية بين البلدين منذ توليها منصبها العام 2018 خلفا لأخيها فاضل بنيعيش، فهي ليست بعيدة عن كواليس العمل الدبلوماسي داخل الدولة المغربية وأيضا عن الثقافة الإسبانية كونها ابنة محمد فاضل بنيعيش وزوجته الإسبانية كارمن ميلان، فقد كان أبوها الطبيب الشخصي للملك الراحل الحسن الثاني حتى العام 1972.

الضغط كبير هذه الأيام على بنيعيش، فالأزمة الأخيرة بين البلدين ليست عادية، بعد سماح حكومة مدريد بدخول زعيم البوليساريو إلى الأراضي الإسبانية بهوية مزورة ودون إخطار الرباط بما ستقدم عليه، ما يضع العلاقات الثنائية على المحك، والجميع يتساءل هل ستمضي بنيعيش على منوال السفير ابن عثمان المكناسي، في عهد السلطان سيدي محمد بن عبدالله، الذي نجح في مهمته الدبلوماسية لدى بلاط العاهل الإسباني كارلوس الثالث في القرن الـ18، بإبرام معاهدة صلح وتجارة بين المغرب وإسبانيا، واضعا حدا لقرون من التنافر بين الدولتين، بعد أن ترجم السياسة الخارجية لبلده آنذاك مبيناً أن الجوار والتاريخ والعلاقات التجارية تحتّم على البلدين العيش بسلام.

مسؤوليات وتحديات

إذا كانت الدبلوماسية ترجمة للسياسة الخارجية للدولة على الأرض بالتأكيد على السيادة والدفاع عن الأمن القومي في شقه الدبلوماسي والبحث عن قدر أكبر من التموقع على المسرح الدولي بتصميم أكبر على الاستفادة من المزايا التي يوفّرها النظام الدولي المتغير، فالسفيرة بنيعيش دأبت التأكيد على تميز علاقات التعاون السياسي والاقتصادي والتجاري والثقافي القائمة بين المغرب وإسبانيا إلى جانب تسليطها الضوء على الشراكة الاستراتيجية التي ما فتئت تتعزز وتتقوّى على المستوى الثنائي وكذا على مستوى الاتحاد الأوروبي.

الضغط كبير هذه الأيام على بنيعيش، فالأزمة الأخيرة بين البلدين ليست عادية، بعد سماح حكومة مدريد بدخول زعيم البوليساريو إلى الأراضي الإسبانية بهوية مزورة، ما وضع العلاقات الثنائية على المحك

دشنت بنيعيش حملة علاقات عامة مع العديد من المسؤولين الإسبان في كل المجالات، وذلك لمناقشة سبل تعزيز العلاقات بين المملكتين، فالشأن الدبلوماسي عندها مهنة وعشق ودربة، منذ أن كانت مديرة للتعاون الثقافي والعلمي بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، وهي تشغل منذ العام 2013 منصب نائبة رئيس اللجنة التنفيذية لمركز شمال – جنوب التابع لمجلس أوروبا.

انعكس ذلك على أدوارها الدبلوماسية ما ساعدها على تقديم لمحة واقعية عن الإصلاحات الديمقراطية التي قام بها المغرب في مختلف المجالات، وتدبير خطوات الحكم الديمقراطي وتكريس دولة الحق والقانون والجهوية المتقدمة والتنمية البشرية وحقوق الإنسان وحماية الحريات العامة والفردية وتمكين المرأة.

الهدف أعمق من أن يكون تحرك الدبلوماسية المغربية على الأرض الإسبانية لعبة بروباغاندا قصيرة النظر بل هو استراتيجية بعيدة المدى هدفها تقديم صورة واقعية عن الدينامية التي يعرفها المغرب ورصد تحولات المجتمع الإسباني الذي يضم جالية مغربية كبيرة وتقييم مختلف وجهات النظر الظاهرة والمبطنة للمسؤولين الإسبان حول المغرب وديناميته.

قوة دفع

بنيعيش المولودة في أبريل من العام 1961 بتطوان شمال المغرب، تجري في عروقها دماء إسبانية وعروق متجذرة في تربة الحضارة والثقافة المغربية، ولهذا فهي متشبعة بثقافة مزدوجة ولغة إسبانية ممتازة، وهذا عز الطلب في دبلوماسي مغربي يمثل بلده في وقت الشدة والرخاء وببلد له تاريخ من التوتر مع المملكة المغربية، فالمطلوب من الدبلوماسية المغربية الإجابة على أسئلة أصحاب القرار في الرباط بخصوص العوامل التي تشكل إما تثبيطاً أو تعزيزاً للشراكة الاستراتيجية بين المملكتين.

وفي إطار مسؤوليات إدارتها للملف الدبلوماسي بتشعباته في إسبانيا عاشت بنيعيش صعوبات تتعلق بتدبير شؤون الجالية المغربية المقيمة في مناطق متعددة سواء في العاصمة أو مدن أخرى، ودراسة آليات تحسين حياتهم اليومية مع المسؤولين الإسبان وامتحان وعود هؤلاء بخصوص استعدادهم الكامل لتسهيل اندماج المواطنين المغاربة وتحسينه في المجتمع الإسباني.

السفيرة المغربية ترى أن مفتاح النجاح في مهمتها يكمن في حقيقة أن المغرب يقع على بعد 14 كيلومترا فقط من أوروبا، وهو دولة أفريقية وعربية ومسلمة ومسؤولة وجادة وملتزمة على مسار التنمية تحت قيادة الملك محمد السادس

التوتر في العلاقات الإسبانية – المغربية واقع لا غبار عليه زادت حدته بعد قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالسيادة الكاملة والتامة للمغرب على صحرائه، وسبقته العديد من القرارات السيادية كإخطار المغرب الجانب الإسباني بعزمه على ترسيم حدوده البحرية على سواحل المحيط الأطلسي، وكذا قطع الطريق على التهريب المعيشي الذي تنتعش بواسطته عدد من الأسر في شمال المغرب ويهدد بالمقابل خطط المغرب في تطوير اقتصاد قوي للمنطقة الشمالية لا يعتمد على التهريب انطلاقا من معابر سبتة ومليلية المحتلتين.

ذلك الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه يعني إسبانيا كمستعمر سابق للصحراء إلى حدود العام 1975، وهو أيضا مرتبط بالأمن القومي المغربي، ولهذا تطالب الرباط بنهج إسبانيا نفس طريق واشنطن وهي التي ساهمت بطريقة أو بأخرى في خلق جبهة انفصالية بالمنطقة، ولهذا شددت كريمة بنيعيش على أن الأمر يتعلق بحدث تاريخي يكتسي أهمية كبيرة، معتبرة أن مقترح الحكم الذاتي هو الحل الوحيد من أجل تجاوز الخلاف حول الصحراء في إطار الوحدة الترابية للمغرب، والمساهمة بالتالي في تحقيق السلم والأمن والاستقرار في المنطقة.

وبنفس دبلوماسي عميق ترد بنعيش على الجانب الإسباني في الشق المرتبط بدور المغرب في أمن المنطقة واستقرارها، فهي ترى أن المغرب يشكل الأمن لديه قضية دولة، كما أن دور المملكة المغربية في مكافحة الإرهاب والمتطرف معترف به في جميع أنحاء العالم ومنها إسبانيا.

ومن جهة نظر بنيعيش لا يمكن تغيير الجغرافيا ولا التاريخ، لهذا فالتعاون الذي يجمع البلدين محكوم باعتبارات متعددة سياسية وتجارية واقتصادية وثقافية، فالمغرب يحتضن مجموعة من المؤسسات الإسبانية التي تعمل كقنوات لتليين التوترات الطارئة وتعزيز المصالح المشتركة وبالطبع فالأولية لتلك المؤسسات هي لبلدهم، وبالنسبة إلى السفيرة المغربية يكمن مفتاح النجاح في حقيقة أن المغرب يوجد على بعد 14 كيلومترا فقط من أوروبا، وهو دولة أفريقية وعربية ومسلمة ومسؤولة وجادة وملتزمة على مسار التنمية تحت قيادة الملك محمد السادس.

تقول “لسنا أوروبيين لنستفيد من الدعم مثل دول الاتحاد الأوروبي، ولا نتوفر على ثروات طبيعية كالغاز والنفط، لكننا بدأنا مسيرة نحو الالتزام والتنمية والتعددية الأساسية ونحن في الطريق نحو تحولات مهمة، كثير منها أصبح بالفعل حقيقة واقعية”.

قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالسيادة الكاملة والتامة للمغرب على صحرائه يعني إسبانيا كمستعمر سابق للصحراء إلى حدود العام 1975، وهو أيضا مرتبط بالأمن القومي المغربي، ولهذا تطالب الرباط بأن تنهج مدريد نفس طريق واشنطن

ملف ابراهيم غالي لم يكن الأول أو الأخير، بل كانت بنيعيش في عين العاصفة التي انطلقت في فبراير الماضي، عندما قامت عناصر أمنية إسبانية بممارسات عنيفة ضد مهاجرين قاصرين مغاربة بداخل أحد مراكز الاحتجاز في جزيرة لاس بالماس الواقعة قبالة السواحل الجنوبية للمغرب. وهذا الملف من مخلفات الهجرة السرية التي تعكف المصالح المغربية والإسبانية ببناء خطط للتعامل معها في إطار التعاون المشترك، وفيما يتعلق بالعلاقات متعددة الأطراف ذكّرت السفيرة بالتزام المملكة وجهودها في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية على أساس مقاربة تضامنية ومندمجة وكذا مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وذلك في إطار التعاون الدولي والإقليمي .

كفاءتها ومثابرتها في البحث عن سبل تخفيف الضغوط وحلّ المشكلات وترتيب الملفات والأولويات وتعزيز قيم التعاون، كانت سببا في توشيح بنيعيش بالعديد من الأوسمة من بينها قائد الاستحقاق المدني في إسبانيا سنة 2000 ووسام الاستحقاق الوطني في فرنسا في العام 2007.

الدبلوماسية الاقتصادية

بنيعيش ترخي السمع عندما تتحدث وزيرة الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسبانية أرانشا غونزاليس لايا، عن النتائج الممتازة التي حققتها بلادها في إدارة تدفقات الهجرة، وذلك بفضل التعاون النشط مع المغرب بشكل خاص. لكن السفيرة المغربية أوصلت رسائل الرباط بأن المغرب ليس رجل أمن يمنع تدفقات الهجرة غير النظامية نحو إسبانيا ومنها لدول الاتحاد الأوروبي.

المعروف عن العمل الدبلوماسي الذي تقوم به بنيعيش أنه اجتهاد في تحقيق التعاون السياسي الثنائي وتطوير أدوات حفظ الأمن السلام والاستقرار على ضفتي المتوسط، ولا يخرج هذا عن تعزيز دور العلاقات الاقتصادية والتجارية باعتبارها العنصر المركزي للدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين، فخلفيتها الأكاديمية الحافلة سهّلت مأموريتها فهي حاصلة على دكتوراه شرفية من جامعة نوفا بلشبونة، وتمارس دورها الاقتصادي في إطار الدبلوماسية الاقتصادية كأحد الأدوات الرئيسية لعملها التكميلي والاستشرافي والتمهيدي بالتنسيق الوثيق مع المؤسسات المحلية ونظيرتها بالمغرب، لاستقطاب الاستثمارات الإسبانية إلى المغرب أو الدفاع عن الحقوق التجارية والاقتصادية للمغرب باعتباره أولوية في خدمة إعادة التنشيط الاقتصادي وزيادة الصادرات وتحسين صورة المغرب لدى الجانب الإسباني الذي يبقى مهما كانت الظروف شريكا تجاريا واقتصاديا.

هدف بنيعيش أعمق من أن يكون مجرّد تحرك للدبلوماسية المغربية على الأرض الإسبانية في لعبة بروباغاندا قصيرة النظر، بل هو استراتيجية بعيدة المدى هدفها تقديم صورة واقعية

وتهدف الدبلوماسية الاقتصادية التي تمارسها السفيرة المغربية على الأراضي الإسبانية إلى التعاون في الدفاع عن المصالح الاقتصادية المغربية وتعزيزها، من خلال دعم الاقتصاد المغربي وشركاته الخاصة والعمومية والغاية منه توطيد الانتعاش الاقتصادي وتطوير عملية التوظيف، وتسهيل الوصول بشكل أفضل إلى التمويل، فقد طورت طريقتها في العمل منذ سنوات من التحصيل والاجتهاد بعد نيلها الإجازة في العلوم الاقتصادية من جامعة مونريال وعلى شهادة “ميتريز” في العلوم الاقتصادية من جامعة مونريال.

تقول بنيعيش إن الاستراتيجيات القطاعية المتعددة التي اعتمدتها المملكة خلال العقدين الماضيين والأداء الذي سجله الاقتصاد المغربي بفضل هذه الاستراتيجيات سواء من حيث نسبة النمو أو التشغيل والتنمية الصناعية توفر جميعها فرصا حقيقية وواعدة للتعاون والاستثمار بالنسبة إلى الفاعلين الاقتصاديين الإسبان .

وتعمل السفارة المغربية في مدريد على التنسيق مع المستشارين الاقتصاديين والتجاريين الإسبان والمغاربة، مع الأدوار الأساسية التي تقوم بها بنيعيش، في تطوير الشركات المغربية وتهيئتها خدمة للواقع السياسي والاقتصادي والتجاري للمغرب. ومنذ بداية عملها الدبلوماسي في إسبانيا وضعت بنيعيش خطة لإقناع رجال الأعمال الإسبان للاستفادة من مناخ الأعمال الملائم للغاية في المغرب، والذي أصبح مركزًا حقيقيًا على المستوى الأفريقي لتوفير فرص عمل مهمة مستفيدا من الاستقرار السياسي والاقتصادي والقانوني للمملكة والذي حظي بإصلاحات هيكلية مهمة.

تلك الفلسفة السياسية يمكنها أن تلعب أدورا كبيرة في تغيير النظرة النمطية التي ما فتئت تبرز بين الحين والآخر على المغرب ومؤسساته، فأصحاب هذه النظرة غير البريئة تجاه دولة قطعت أشواطا كبيرة في تعزيز سيادتها الاقتصادية، ولهذا تعمل بنيعيش على ترويج أهمية فرص الشراكة والتعاون بين الشركات الإسبانية والمغربية من أجل الولوج إلى أسواق جديدة لاسيما في أفريقيا وذلك بفضل التجارب والخبرات التي راكمها القطاع الخاص المغربي في هذه السوق وكذا خبرة الشركات الإسبانية في مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: