منصب قيادة البوليساريو.. صناعة جزائرية بامتياز

ماموني

الموت السياسي والميداني لإبراهيم غالي اكتملت أركانه بمجرد دخوله حاملا هوية مزورة إلى اسبانيا، من أجل العلاج كما أكد الجانب الإسباني. وها هو اليوم محاصر باتهامات تصنّف كجرائم حرب بعد ست سنوات تقريبا من قيادته البوليساريو الانفصالية. وتبحث الجزائر بجدية عن شخص يخلفه، فليس سرا أن النظام المخابراتي الجزائري صانع قيادات الجبهة والمتحكم في قراراتها ومصائرها.

قبل موت الزعيم السابق محمد ولد عبدالعزيز كانت المخابرات الجزائرية توازن بين إبراهيم غالي ومحمد الأمين ولد البوهالي قائد ميليشيا “الاحتياط”، والذي كان الخيار الأقوى لخلافة عبدالعزيز، ليتم في النهاية اختيار غالي ولو باختراق القوانين المنظمة للتنظيم الانفصالي، لاعتبارات وعوامل كثيرة منها محاولة احتواء الاحتقان الموجود في المخيمات.

تغيرت الظروف التي تم فيها اختيار إبراهيم غالي عام 2016 عمّا هي عليه الحال الآن، فهو منهك جسديا ونفسيا بعد أن توالت هزائم الجبهة الانفصالية أمام الآلة الدبلوماسية والسياسية للمملكة المغربية. والأضواء مسلطة عليه حقوقيا وإعلاميا فهو مطلوب من قيل القضاء الإسباني لانتهاكه حقوق الغير بالاغتصاب والتصفية والتشريد، ناهيك عن مشاركته في نهب المساعدات الإنسانية المقدمة من طرف مؤسسات دولية موجهة للمحتجين بمخيمات تندوف جنوب الجزائر.

في ظل الخلافات بين قيادات البوليساريو يصعب التنبؤ بالشخصية التي يتم إعدادها لتولي منصب الأمين العام للجبهة الانفصالية. فالشخص الذي تبحث عنه المخابرات الجزائرية، أو صناعته على المقاس، لا بد أن يكون تابعا لها، وله علاقات وارتباطات قبلية صحراوية تضمن له البقاء في السلطة أو الاستفادة من القرب منها، ويتمتع برؤية غير منفتحة مع قاطني المخيمات، وهذا راجع إلى أولويات الجزائر في صراعها الإقليمي مع المغرب.

الوضع الكارثي في مخيمات تندوف عجّل بظهور تيارات تعارض القيادة الحالية كما عارضت القيادات السابقة، مثل “حركة التغيير”، و”حركة الشهيد”، و”حركة صحراويون من أجل السلام”، والتي تدعو إلى مفاوضات جدية مع الرباط لضمان عودة اللاجئين إلى حضن الوطن. هذا إضافة إلى مشاعر انعدام الثقة المتنامية داخل المخيمات والتي تشكل تحديا وعقبة في اختيار خليفة غالي. المخابرات الجزائرية بصدد تقييم الشخصيات التي يمكنها تولي الدفة بعد غالي بناء على طريقة تعامل القيادات الحالية مع المتغيرات الحاصلة حاليا، ودفاعها عن أنموذج العداء الذي يكنّه النظام الجزائري، كعقيدة تاريخية وسياسية ونفسية، للمغرب.

وبعد انكشاف دخول إبراهيم غالي بهوية مزورة إلى إسبانيا، تسابقت قيادات الجبهة في إخراج روايات تخدم أجنداتهم وتموقعهم ولو كانت تلك الروايات متضاربة فيما بينها. فالقيادي ولد البوهالي، كان ولا يزال يدعو إلى الحرب ضد المغرب، وفي آخر تصريح له قال إن “الوضع الحالي موات لحرب لا هوادة فيها ضد المغرب لأنه لا يوجد خيار آخر أمام (الشعب الصحراوي)”، لكنه بانتقاده لغالي يريد أن يكون مركز الصدارة في تولي أمور الجبهة ويقدم نفسه كمنقذ لها من الخسائر التي منيت بها عندما ورّطها غالي بإعلان العودة إلى حمل السلاح والتخلي عن اتفاق وقف إطلاق النار المستمر منذ العام 1991.

 فقدان الأمل في تغيير البوليساريو من الداخل يؤكد صعوبة القبول بشكل سلس بقيادة جديدة يتم الالتفاف حول مشروعها السياسي أو الاجتماعي، أمام ما يمر به اللاجئون لمخيمات تندوف من انتهاك لحقوقهم

ويبحث عبدالقادر الطالب عمر، ممثل البوليساريو بالعاصمة الجزائر، عن مقعده ضمن مرشحي الدائرة الضيقة للمخابرات الجزائرية رغم أنه فشل في إقناعهم بقيادة الجبهة قبل وفاة عبدالعزيز وبعدها، وهو يقوم بدوره ببروباغاندا غاية في السذاجة بتأكيده أن “جبهة البوليساريو باتت على قناعة تامة، بأن العمل العسكري هو الذي سيصنع الفارق في الصراع”، وأظهرت كل المؤشرات الميدانية أن هذا الخيار انتحاري ولن يفلح في تحقيق أيّ انتصار، وبالتالي قد يتم استبعاده من طاقم القيادة المقبلة.

بمقتل الداه البندير خطاري برهاه، قبل أسابيع والذي كان يتولى منصب “قائد الدرك” في الجبهة الانفصالية، يكون قد غاب أحد المتنافسين الأقوياء على منصب رئيس الجبهة الأمر الذي سيفرز قيادة أخرى تشترك فيها قيادات الصف الأول والثاني مسؤوليات المرحلة المقبلة.

قيادات البوليساريو تسوّق لخيار الحرب ضد المغرب لكسب ودّ من لا يزالون يثقون بأن الحرب حل يمكن الركون إليه، بدل التحلي بالشجاعة والمروءة والاعتراف بأن المغرب حقق إنجازات كثيرة وأنه لن يتخلى عن أرض هي له بحكم القانون والتاريخ والبشر. هناك قيادات داخل البوليساريو لها مآرب شخصية في استمرار الوضع على ما هو عليه، منهم مصطفى بشير السيد الذي لن يفوّت فرصة للجلوس إلى طاولة المفاوضات السياسية مع المغرب باعتبارها مكسبا شخصيا.

السيد الذي جلس في مارس الماضي، مع الرئيس الموريتاني ولد الشيخ، مبعوثا من رئيس البوليساريو ومن يتحكم في قرارها، على أمل تولي رئاسة الجبهة وقيادة أو توجيه الوفد المفاوض في أي عملية سياسية يشرف عليها المبعوث الاممي الجديد.

لم يستطع السيد، الذي يشغل ما يسمى وزير داخلية البوليساريو، القيام بمهامه لتطويق الجرائم بالمخيمات، وفشل في إقناع الجميع بعدم تواجد رئيسه في إسبانيا، وهو ما أحرج موقعه داخل القيادة وبين صفوف مناصريه من الشباب، ورغم أنه لا يملك قراره بل هو مرهون كغيره من قيادات البوليساريو إلى الأوامر الصادرة عن الجزائر، وما تصريحاته وقراراته هذه الأيام إلا بغرض تسويق نفسه أمام سكان المخيمات واكتساب موطئ قدم إلى جانب المنافسين على خلافة إبراهيم غالي المُغَيَّب.

قبل خمس سنوات وصف السيد، مستشار زعيم البوليساريو الوضع الحالي بأنه “متوتر”، مؤكدا أن “القيادة الصحراوية تكره الحرب، وتدرك مخاطرها بحكم التجارب الماضية والطبيعة الصحراوية للمنطقة، والخسائر التي قد تتكبدها مجمل الأطراف”، وهذا يدل على أن هذه الشخصية قد تكون ضمن المرشحين لخلافة غالي. ويرجح هذا أيضا أنه لا يمانع، نزولا عند رغبة القائمين على القرار في المخيمات وداخل أقبية المخابرات الجزائرية، في الاحتكام إلى خيار الحرب، حتى ولو كانت دون جدوى ولا تحمل سوى الضرر.

فقدان الأمل في تغيير البوليساريو من الداخل يؤكد صعوبة القبول بشكل سلس بقيادة جديدة يتم الالتفاف حول مشروعها السياسي أو الاجتماعي، أمام ما يمر به اللاجئون لمخيمات تندوف من انتهاك لحقوقهم الآدمية وتعرضهم للأمراض والفاقة ونهب المساعدات الغذائية والدواء وعدم الاهتمام بمستقبلهم، فالكل بات يعرف أن المخيمات محاصرة بميليشيات تأتمر بأوامر المخابرات الجزائرية واختيار قياداتها لا يمكن أن يعبر دون موافقة تلك المخابرات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: