في الوقت الذي تبدي فيه السلطات الفرنسية رغبة كبيرة واضحة في تهدئة الأجواء مع النظام في الجزائر بل وفي مساندته والوقوف إلى جانبه ولو بشكل غير مباشر في خصومته مع الشارع الجزائري، يظهر النظام الجزائري عداء مسرحيا لفرنسا.
وقد رأينا كيف كان موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه منحازا حينما صرح في نوفمبر 2020 لمجلة “جون أفريك” بأنه سيعمل كل ما في استطاعته لمساعدة الرئيس عبدالمجيد تبون في الوقت الذي كان فيه المتظاهرون في الجزائر يعيدون النظر في شرعيته في مظاهرات صاخبة كل يوم جمعة وثلاثاء هاتفين “تبون مزوّر أتى به العسكر”. وليس هذا فحسب بل كان ماكرون مع العهدة الخامسة كما كان سابقه فرانسوا هولاند مع العهدة الرابعة في وقت كان فيه بوتفليقة مقعدا شبه ميت.
قبل ذلك كان للجانب الفرنسي مواقف جريئة كثيرة كاعتراف السفراء الفرنسيين في الجزائر بمجازر الـ8 من مايو 1945 في الشرق الجزائري، وتصريحات الرئيس السابق فرانسوا هولاند الإيجابية بمناسبة إحياء ذكرى خمسينية أحداث الـ17 من أكتوبر 1961 التي راح ضحيتها العشرات من الجزائريين برصاص الشرطة الفرنسية بباريس. وكذلك إرجاع رفات جزائريين مقاومين للاستعمار إلى الدولة الجزائرية في المدة الأخيرة، كانت في متحف الإنسان بباريس.
وعلى الرغم من إبداء الجانب الفرنسي رغبة في الوصول إلى علاقات طبيعية مع الجزائر في مناسبات كثيرة وتجسيده لذلك ميدانيا كما رأينا، ففي كل مرة يُعكّر الجو من الجانب الجزائري بسبب تصريح هنا أو تعليق هناك معاد لفرنسا.
لقد تم تأجيل زيارة رئيس الحكومة الفرنسي جون كاستكس التي كانت مقررة يوم الـ11 من أبريل الماضي في آخر لحظة. وعلى عكس ما جاء في تفسير الحكومتين الدبلوماسي لهذا التأجيل، فالسبب الأساسي ربما يكون تلك الكلمة غير الدبلوماسية المجانية التي جاءت على لسان وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي الهاشمي جعبوب “فرنسا عدونا التقليدي والأبدي” والتي لم تكن زلة لسان بل كانت مقصودة. وكذلك قول مستشار الرئيس تبون عبدالمجيد شيخي أن فرنسا مسؤولة عن تفشي الأمية بين الجزائريين.
العداء الشكلي المسرحي لفرنسا لم يعد يخدع الجزائريين
وبغض النظر عن هذا الكلام غير المعقول والمضلل إذ من الغباء اعتبار بلد ما عدوّا أبديا أو مسؤولا عن أمية منتشرة بين مواطنين استقلت بلدهم منذ 60 سنة!
ليس خفيا على أحد أن العلاقات الاقتصادية والتجارية والإنسانية أهم وأمتن مع فرنسا، التي يعتبرها الوزير عدوّة من كل البلدان التي يعتبرها النظام والشعب الجزائري في أغلبه بلدانا شقيقة! أما عن الأمية فالمدرسة الجزائرية منكوبة لأنها قُدمت هدية للمحافظين والإخوان المسلمين منذ السبعينات فهي تنبذ العلمانية وتنشر الكراهية ضد الأديان، كما يقول الباحث والروائي الجزائري أمين الزاوي، فهل فرنسا هي سبب ذلك؟
لكن، لم يعد هذا العداء الشكلي المسرحي لفرنسا يخدع الجزائريين فهم يعرفون عن تجربة أنه كلما وجد النظام الجزائري نفسه في ورطة ومعارضة وتذمّر شعبي جراء فشله في تسيير البلد، يلجأ إلى إخراج ورقة فرنسا الاستعمارية التي تتآمر على بلد المليون ونصف المليون شهيد، ويهدد باستصدار قانون يجرّمها ويطالبها بالاعتذار وكل ذلك بحثا عن شرعية مفقودة في الداخل وتهدئة للشارع الغاضب.
مع استمرار الحراك بقوة ومع قرب الانتخابات التشريعية التي يريد النظام فرضها بالقوة، سيلجأ النظام أكثر إلى عادته القديمة الجديدة بافتعال مشاكل مع فرنسا للظهور بمظهر الخصم النديّ لفرنسا بغية طمأنة المنتفعين وخداع الآخرين وتضليلهم.
فلئن أظهر النظام في خطابه الرسمي تشنّجا وعدائية تجاه فرنسا، ففي الواقع لا شيء من ذلك إذ علاقته كانت دائما أكثر من طبيعية مع فرنسا، بل هي علاقة يسودها تفاهم مصلحي يجني منه الجانب الفرنسي امتيازات اقتصادية كبيرة مقابل غض الطرف عن التسلط السياسي الممارس من طرف النظام في الجزائر، ولذلك فالنظام الجزائري لا يريد تصفية المسألة مع فرنسا في العلن كي لا يقطع غصن الشجرة الذي يجلس فوقه منذ عام 1962.
ومن هنا، كلما أراد النظام تمرير قوانين أو عقد اتفاقيات أمنية معينة، يعرف مسبقا أنها ستكون مرفوضة من غالبية الجزائريين، سارع إلى إخراج ورقة معاداة فرنسا الجاهزة ويفتعل مشاكل تافهة بهدف تلهيتهم.
أصبح تظاهر النظام بمعاداة فرنسا الاستعمارية مثيرا للشفقة في نظر معظم الجزائريين، لأنهم أدركوا أنه سجل تجاري شعبوي هدفه دغدغة عواطفهم الوطنية من أجل مواصلة الاستحواذ على مقاليد الحكم والثروة. وعموما كانت فكرة التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للجزائر فزّاعة سهلة الاستعمال يرفعها النظام دائما كستار للتغطية على الوضعية السيئة العامة التي يعيشها الجزائريون جراء غياب دولة القانون والمساواة والتنمية الحقيقية.