الرحلات المغربية إلى أوروبا: من براديغم الانغلاق إلى براديغم الانفتاح

الساوري

ضمن منشورات مجلس الجالية المغربية في الخارج، صدر مؤخراً كتاب مهم باللغة الفرنسية يحمل عنوان «الرحالون المغاربة إلى أوروبا تاريخ الأفكار والذهنيات» للباحث والمترجم محمد سعد الزموري أستاذ الأدب الفرنسي والفرنكوفوني والمقارن وتاريخ الأفكار، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تطوان.
يقع هذا الكتاب في 151 صفحة من الحجم المتوسط. انطلق الكاتب في صوغ إشكاليته من طُرفة مستقاة من حوار دار سنة 1854 بين الرحالة الروسي فاسيلي بيتروفيتش بوتكين، ومغربي طنجي سأله: من أي بلد جئت؟ فأجابه: أنا روسي أتيت من روسيا. فرد المغربي: لم يسبق لي أن سمعت بهذا البلد. ولماذا جئت إلى طنجة؟ أجابه الروسي: لقد دفعني الفضول؛ أريد معرفة بلدكم. فأجابه المغربي: نحن لا نسافر إلا للضرورة من أجل معالجة شؤوننا أو زيارة مكة. ثم استحضر الزموري رأياً مناقضا لهذا عبّر عنه الرحالة المغربي عبد الله الفاسي في مطلع رحلته «حديقة التعريس في بعض وصف ضخامة باريس» (1909-1910) من خلال حمده لله على جعله السير في الأرض للتفكر والاعتبار، دليلاً على وحدانيته والتدبر في عجائب مصنوعاته، والاستبصار شاهدا كبيرا على عظمته، وهو الرأي نفسه الذي عبّر عنه الرحالة محمد الحجوي في رحلته الأوروبية (1919).
ليستنتج الزموري من هاتين الوضعيتين وجود رؤيتين أو ذهنيتين أو براديغمين متناقضين لدى المغاربة حول موضوع السفر. ويعبر هذا التعارض، في نظر الزموري، عن تطور عميق وعن قطيعة في كيفية الرؤية والتفكير داخل المجتمع المغربي من منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين.
وهو ما سمح للزموري بجعل الملفوظات التي توضح هذا التناقض بمثابة إطار عمل في هذا الكتاب، اتبع فيه الانتقال من براديغم إلى آخر. واقترح تحديد العناصر البارزة لهذين البراديغمين من التفكير، بتتبع تطور الأفكار والعقليات في ما يتعلق بالسفر وتمثله، والموقف من الآخر غير المسلم والعلاقة معه، انطلاقاً من تحليل مجموعة من النصوص الرّحلية المغربية إلى أوروبا، ما بين القرن السابع عشر وبداية القرن العشرين، للكشف عن وجهة نظر الثقافة الناظرة التي من الواضح أن جوهرها ومرجعيتها كانا دائما هما الإسلام.

محمد سعد الزموري

واعتبر محمد سعد الزموري السؤال عن السفر مؤشرا كاشفا عن تاريخ الأفكار والعقليات في المجتمع المغربي، ويمكّننا من ملاحظة القطائع والتغييرات في المواقف تجاه القضايا الأساسية المنطوية على العلاقة بين الذات والآخر في الثقافة المغربية على امتداد أربعة قرون. وقد اختار الباحث، كمتن للاشتغال، نصوصاً رحلية تمتد من القرن السابع عشر إلى بداية القرن العشرين؛ نصوصاً نابعة من تجارب سفر قام بها مسلمون مغاربة إلى أوروبا، قادمون من أفق فكري وثقافي وجغرافي، يشكل الإسلام إطاره المرجعي المتين، الذي يحدد ويُلهم الرؤية والقيم والمواقف والمشاعر التي تمارس إكراهات على وعي وتصرفات الرحالة عند لقاء الآخر الأوروبي والاحتكاك به. في هذا الإطار، الموجَّه بخلفية معرفية هي تاريخ الأفكار والذهنيات، حلل محمد سعد الزموري البراديغمين اللذين اقتسما هذا الكتاب:
عالج في القسم الأول، براديغم المجتمع المنغلق، المتمركز حول الذات، المتطلع إلى الداخل، مع اختلافات واضحة بين شخصيات الرحالة وتكوينهم، التي انعكست على رؤاهم للآخر. ومثّلته نُصوص رحلية ممتدّة من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين («ناصر الدين على القوم الكافرين» لأحمد بن قاسم الحجري، و«رحلة الوزير في افتكاك الأسير» لمحمد الغساني الأندلسي، و«نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد» لأحمد بن المهدي الغزال، و«الإكسير في فكاك الأسير» لمحمد بن عثمان المكناسي، و«رحلة محمد الصفار إلى فرنسا» و«رحلة الملك العزيز بمملكة باريز» لمحمد بن إدريس العمراوي، و«إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار» لإدريس الجعيدي السلوي، و«التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإصبنيولية» لأحمد الكردودي).
وحلّل محمد سعد الزموري في القسم الثاني، براديغم الانفتاح والتفاعل مع المجتمعات والثقافات، الذي فرضته تحولات كبرى شهدها المغرب في علاقته بالقوى الأوروبية، وقد تمظهر في النصوص الرحلية، إبان مطلع القرن العشرين («حديقة التعريس في بعض وصف ضخامة باريس» لعبد الله الفاسي و»الرحلة الأوروبية» لمحمد الحجوي و»أسبوع في باريس» لمحمد بن عبد السلام السايح و»رحلة إلى فرنسا مع السلطان مولاي يوسف قصد تدشين مسجد باريس» للهاشمي الناصري الهشتوكي).
لم يكتف محمد سعد الزموري بتحليل مضامين النصوص الرحلية المعنية وما تُفصح عنه من مواقف، بل كشف عن سياقات إنتاجها والتوجّهات الفكرية لمُختلف كتّابها، بالاشتغال، في الآن ذاته، على النصوص الرحلية وتاريخ الأفكار والتمثلات والذهنيات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: