بدأت تظهر في الأسابيع القليلة الماضية إشارات إلى بداية تبلور وعي لدى الصحراويين لمدى خطورة جبهة “البوليساريو” عليهم وعلى أبنائهم ومستقبلهم. يحصل ذلك في ضوء استمرار “البوليساريو” في لعب دور الأداة لدى الجزائر من جهة ورفض قيادتها الاعتراف بأنّ العالم الذي ولدت فيه الجبهة تغيّر كلّيا من جهة أخرى. تغيّر العالم، خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الأفكار التي كانت سائدة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته.
في الواقع، أخذ هذا الوعي، من داخل “البوليساريو” وليس من خارجها، يتبلور شيئا فشيئا منذ أبريل 2020 عندما أُعلن عن تأسيس إطار سياسي جديد ولد من رحم تلك الجبهة التي كان هناك في البداية مبرّر لوجودها عندما كانت الصحراء لا تزال تحت الاستعمار الإسباني. ظهر الوعي تحت اسم حركة “صحراويون من أجل السلام”.
وقتذاك في أبريل 2020، التقى نحو 170 قياديا من “البوليساريو” وقرروا سلوك طريق مغاير عن تلك التي سلكتها تلك الجبهة التي تحوّلت إلى رهينة جزائرية لا أكثر بعدما كانت في الماضي رهينة لمعمّر القذافي الذي أراد في مرحلة معيّنة المتاجرة بما سميّ قضيّة الصحراء وهي أرض مغربيّة استعادها الشعب المغربي من المستعمر الإسباني بالطرق السلميّة بفضل “المسيرة الخضراء” في نوفمبر من العام 1975، وهي مسيرة أبدعها الملك الراحل الحسن الثاني.
لا يمكن الاستخفاف بمثل هذه الخطوة التي تؤكّد رفض الصحراويين المراوحة في المكان ذاته منذ خروج الاستعمار الإسباني من الصحراء ذات الموقع الاستراتيجي والتي كانت تسمّى “الصحراء الإسبانيّة”. عاجلا أم آجلا، ستكون لهذه الخطوة انعكاساتها على كلّ الوضع القائم في شمال أفريقيا حيث لا وجود سوى لواحة سلام وأمان واحدة اسمها المملكة المغربيّة. رفضت المملكة في كلّ وقت الشعارات الفارغة وبقيت متمسّكة بالمبادئ التي قامت عليها، وهي أن تكون مملكة متصالحة مع نفسها، مع شعبها. لا شكّ أنّ المجموعة التي أسّست حركة “صحراويون من أجل السلام” تدرك ذلك وتدرك في الوقت ذاته أن على “البوليساريو” الخروج من الحلقة المقفلة التي أدخلت نفسها فيها والعمل على تطوير نفسها والتصالح مع الواقع ومع عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة وما أنتجه على الأرض.
لم يعد سرّا أن المغرب حقق منذ “المسيرة الخضراء” خطوات كبيرة إلى الأمام وصولا إلى الاعتراف الأميركي بمغربيّة الصحراء
لعلّ أهمّ ما تتجاهله جبهة “البوليساريو” أن الحرب الباردة انتهت في العام 1989 عندما انهار جدار برلين. مع الحرب الباردة، انهارت أمور كثيرة من بينها أنظمة دعمت “البوليساريو” وروّجت لها، خصوصا في أميركا اللاتينية حيث كان هناك حنين إلى المبادئ الثورية التي أطلقها فيديل كاسترو في كوبا وعمر توريخوس في باناما ثمّ هوغو تشافيز في فنزويلا. ليس خراب فنزويلا سوى دليل على عقم هذه الأفكار والمبادئ التي لم تؤمّن الخبز لشعوب الذين أطلقوها. تبقى فنزويلا خير دليل على الفشل وعلى تبديد ثروة كان مفترضا أن يستفيد منها شعبها. ما ينطبق على فنزويلا، ينطبق إلى حدّ ما على الجزائر نفسها التي تؤوي “البوليساريو” وتوفّر لمناصريها من الصحراويين سجنا في الهواء الطلق في تندوف. هذا السجن هو ما تحاول حركة “صحراويون من أجل السلام” الخروج منه مستخدمة العقلانية والمنطق قبل أيّ شيء آخر بعيدا عن الأفكار البالية التي تجاوزها الزمن منذ عقود عدّة.
يعبّر عن هذا الموقف الواقعي والمنطقي الكلام الصادر عن الحاج أحمد بارك الله السكرتير الأوّل للحركة الذي كان ممثلا لـ”البوليساريو” في دول أميركية لاتينية عدة. يقول الحاج أحمد “أصبح الصحراويون يدركون اليوم أنهم لا يستطيعون الاستمرار مدى الحياة محصورين في إطار لعب الأدوار الثانوية دون فعالية، وسط صدام أبدي بين القوى الإقليمية المتنافسة كما حدث لـ ‘مجاهدي خلق’ بين إيران والعراق، أو الفصائل الكردية بين سوريا وتركيا.
في مواجهة هذا الواقع، اقترحت ‘صحراويون من أجل السلام’ اتخاذ خطوة إلى الأمام ومن نهج مغاير، معتدل وعقلاني، والبحث في مناطق غير مستكشفة لإيجاد حل وسط، واتفاق لا يوجد فيه خاسرون، ولا رابحون. وبالتالي، الأولوية هي لإنقاذ شعبنا، لإنهاء رحلته اللانهائية إلى المجهول.
انطلاقا من المنطق السليم وبعيدا عن الشعارات الشعبوية والمشاريع الطوباوية، قرر قادة الحركة الجديدة ومناضلوها النزول إلى الواقع، والبدء في هذه الرحلة بحثا عن صيغ للتفاهم والتعايش مع المملكة المغربية انطلاقا من قناعتهم بأنه لا يوجد من بديل آخر، دون أن يعني ذلك التخلي عن الحقوق والمطالب الأساسية للصحراويين. نحن نعتبر أن الاقتراح المغربي بشأن الحكم الذاتي، مع الضمانات الواجبة، يمكن أن يشكل نقطة انطلاق وليس المحطة الأخيرة، للانتقال نحو نموذج التعايش الضروري والعاجل بين الصحراويين والمغاربة. في ‘صحراويون من أجل السلام’ لدينا أيضًا الحق في الحلم والإعلان عن ‘نعم نستطيع’ لإيجاد مخرج مشرف يضع حدًا لمحنة شعبنا ويوفر له مستقبلًا يسوده السلام والكرامة والرفاهية عوض الحرب والمنفى”.
ما يقوله الحاج أحمد بارك الله كلام سليم إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على جرأة وشجاعة ورغبة في التخلّص من عقد الماضي وما حمله من أخطاء ورهانات لم تكن في محلّها في أيّ شكل.
لم يعد سرّا أن المغرب حقق منذ “المسيرة الخضراء” خطوات كبيرة إلى الأمام وصولا إلى الاعتراف الأميركي بمغربيّة الصحراء. فوق ذلك، هناك دول عدّة أفريقية وعربيّة فتحت قنصليات لها في العيون والداخلة. في المقابل، تعمل “البوليساريو” على تأدية المطلوب منها جزائريا، أي التحرّش بالمغرب بين حين وآخر. في النهاية، لا شيء ينجح مثل النجاح. هذا ما اعترفت به حركة “صحراويون من أجل السلام” التي ترفض البقاء في حلقة الانتقال من فشل إلى فشل آخر، وهي حلقة تدور فيها “البوليساريو”.
كلّ ما في الأمر أنّ هناك قياديين ومسؤولين في “البوليساريو” يرفضون استمرار الغرق في الفشل. تبحث هذه القيادات عن النجاح وهي تعرف في الوقت ذاته أنّ التعاطي بنيّة صادقة مع المغرب هو نجاح بحدّ ذاته، خصوصا أن الأقاليم الصحراوية تعيش في إطار مملكة تتميّز بسيادة القانون واحترام المواطن واللامركزيّة الموسّعة التي تعني أوّل ما تعنيه الخروج من السجن الذي أرادت الجزائر وضع الصحراويين فيه..