أعلن حزب “الجمهورية إلى الأمام” (حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) أخيراً أنه قرر فتح فرعين بالمغرب، الأول في مدينة الداخلة التي تعتبر ثاني أكبر مدن الصحراء، والآخر بمدينة أغادير جنوب غربي المملكة. واعتبرت الأوساط الفرنسية أن اختيار الداخلة من قبل الماكرونيين يمثل خطوة تكرس توجهاً فرنسياً للاعتراف بمغربية الصحراء.
وبالرغم من مسارعة سكرتير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، تحت ضغط الاحتجاج الجزائري، لنفي أي تغيير في التوجه الرسمي “الحيادي” إزاء نزاع الصحراء المغربية (مركزاً على أن خطوة حزب الرئيس هي خطوة محلية لا تلزم الحكومة)، يمكن أن يمثل هذا التطور اتجاهاً لتحول في الموقف الفرنسي الرسمي وفي المواقف الأوروبية نظرا للأهمية الإستراتيجية لمدينة الداخلة (ومجمل الإقليم) في المغرب العربي وغرب أفريقيا.
بينما يحتدم النقاش داخل فرنسا والأوساط الأوروبية بشأن حسم الاعتراف بمغربية الصحراء، أخفقت منظمة الأمم المتحدة الأسبوع الماضي في مسعاها لتعيين مبعوث إلى الصحراء المغربية، وهو منصب شاغر منذ نحو عامين. وتجاوزاً للمأزق في نزاع الصحراء الأطول في القارة الأفريقية والمستمر منذ 1975، شهدنا اختراقاً في آخر عهد ترامب مع الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء وذلك في موازاة اعترافات دبلوماسية أخرى. والآن بعد التحولات الأميركية والعربية والأفريقية إزاء هذا النزاع، تأتي خطوة حزب الرئيس إيمانويل ماكرون تحريكاً مهماً لهذا الملف وإمكانية الدفع نحو ديناميكية إيجابية تستند إلى علاقة مميزة بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي انطلاقا من الشراكة المتوسطية والمصالح المشتركة والحوار الجيوسياسي ومكافحة الهجرة غير المشروعة والحرب ضد الإرهاب.
ويأتي تعزيز حزب “الجمهورية إلى الأمام” لوجوده في الداخلة “لؤلؤة الجنوب المغربي” من أجل تسهيل التوجه للناخبين مزدوجي الجنسية (في أفريقيا أو من الفرنسيين – المغربيين في فرنسا) وذلك قبل سنة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. ويندرج انتشار حزب ماكرون في سياق الديناميكية الإقليمية والدولية التي يعرفها حاليا ملف الصحراء المغربية. كما يتزامن مع احتدام نقاشات تقودها مجموعات ضغط (لصالح إحدى وجهتي النظر المغربية أو الجزائرية) وشخصيات مؤثرة في فرنسا وأوروبا. وبينما يسعى أنصار الاعتراف بمغربية الصحراء لدى الإليزيه والمفوضية الأوروبية في بروكسل للحصول على دعم وجهة نظر الرباط، تحرك اللوبي الموالي للجزائر ونواب من اليسار الفرنسي ضد خطوة حزب الرئيس ماكرون، وإذا كان هذا الفريق يربط تأجيل زيارة رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس إلى الجزائر بإدانة المسؤولين الجزائريين لخطوة حزب “الجمهورية إلى الأمام”، فإن إشكالات بروتوكولية (مدة الزيارة والوفد المصغر بسبب جائحة كورونا) ومواضيع مثل تنقية الذاكرة وعبء التاريخ لا تزال تعرقل تطوير علاقات باريس والجزائر. على خط آخر، انتهز الفريق المناصر للمغرب لحظة اعتراف إدارة ترامب بمغربية الصحراء وافتتاح قنصلية أميركية في الداخلة لكي يطالب الدبلوماسية الفرنسية بموقف واضح وترجمة ذلك بافتتاح مركز دبلوماسي في جنوبي المملكة المغربية.
من أجل دعم وجهة نظره يستند هذا الفريق إلى العلاقات الوثيقة التي تجمع باريس والرباط وإلى أن المغرب يقوم بتقييم علاقاته مع الآخرين تبعاً لموقفهم من ملف الصحراء.
ومن المبررات الأخرى المطروحة لتغيير الموقف الفرنسي يكمن العامل الاقتصادي، إذ أن هناك مصلحة لفرنسا في أن تتمركز في منطقة إستراتيجية تربط القارة السمراء بالعالم لأن مدينة الداخلة يمكن أن تحتضن أكبر ميناء بحري في غرب أفريقيا. وحسب خبراء اقتصاديين ستستقطب هذه المنطقة استثمارات ومشاريع خارجية حيث أن الصين تفكر بإقامة مشاريع تجارية وصناعية خاصة بعد إعلان أميركي عن إمكانية الاستثمار في هذه المنطقة الواعدة.
تاريخياً يقول المغرب الذي يسيطر على ثمانين في المئة من أراضي الإقليم إن الصحراء المغربية جزء لا يتجزأ من أراضيه ولا يمانع في حصول الإقليم على حكم ذاتي على أن يظل تحت السيادة المغربية، فيما تصر جبهة البوليساريو بدعم من الجزائر المجاورة على استفتاء لتقرير المصير، كما ينص اتفاق وقف إطلاق النار الموقع عام 1991. ووفقاً لهذا الانقسام تتحدد مواقف القوى الكبرى ويسري التباين على مواقف الدول الأوروبية إذ أنه بالإضافة إلى فرنسا هناك ترقب لموقف إسبانيا الدولة الجارة والمستعمرة سابقا للصحراء.
والآن بعد اعتراف واشنطن بالسيادة المغربية في ديسمبر 2020 وبعد أن أعلنت حوالي 20 دولة أفريقية وعربية عن فتح قنصليات لها في الصحراء المغربية، تأمل الرباط استكمال نجاحها بمطالبة القادة الأوروبيين بالسير على خطى الرئيس السابق دونالد ترامب أو دعم مشروع الحكم الذاتي على أقل تقدير. وتطالب الرباط إسبانيا، القوة الاستعمارية السابقة، بتغيير حاسم في موقفها. وخلال المؤتمر الوزاري الذي ضم أربعين دولة (كانت فرنسا الدولة الأوروبية الوحيدة المشاركة فيه) وانعقد في يناير الماضي بشراكة مغربية – أميركية لدعم مبادرة الحكم الذاتي، شدد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في رسالة إلى “أصدقاء الرباط الأوروبيين” أنه “على أوروبا أن تخرج من منطقة الراحة وتتبع ديناميكية الولايات المتحدة” حيث “يجب أن يكون جزء من أوروبا أكثر جرأة لأنه قريب من هذا النزاع”، وفي هذا تلميح لإسبانيا بشكل خاص. وفي هذا الصدد تردد الأوساط المناهضة للمغرب أن “الرباط لا تتردد في استعمال كل الوسائل لهذا الغرض، بما في ذلك ورقة فتح المجال أمام الهجرة غير الشرعية نحو جزر الكناري الإسبانية واتفاقيات الصيد” خاصة أن هناك نزعة إسبانية تميل إلى حد ما لأطروحات جبهة البوليساريو.
في مطلق الأحوال، يردد أكثر من مسؤول أوروبي على أهمية البحث عن حل سياسي “في إطار الشرعية الدولية والأمم المتحدة”. ويتم التركيز على “الطريقة الوحيدة الممكنة، وهي استئناف العملية السياسية. وهذه هي طريقة التوازن”. ومن الواضح أن إدارة بايدن التي لن تتراجع عن قرار إدارة ترامب، تحاول من خلال تحريك الملف في الأمم المتحدة والعمل على تعيين مبعوث أممي جديد تفادي عودة الأعمال العسكرية وتفادي اتخاذ مواقف تشتت جهد مكافحة الإرهاب الذي تشارك فيه الرباط والجزائر.
من هذا المنطلق تعد خطوة حزب الرئيس إيمانويل ماكرون تحريكاً مهماً للملف على الصعيدين الفرنسي والأوروبي مع تسجيل نقاط إضافية لصالح مغربية الصحراء.