غريب حال العلاقات الجزائرية الفرنسية. ما أن تهدأ وتبدو عليها بعض ملامح الاستقرار حتى تعصف بها رياح الغضب والعواطف المفرَطة. بقدر ما تبدو هذه العلاقات قوية وضرورية بحكم قدريتها وحتميتها، بقدر ما هي هشّة تتعثر أمام أصغر مطب.
آخر مطبّ في مسار هذه العلاقات المأزومة باستمرار، الزيارة الرسمية التي كان من المقرر أن يبدأها رئيس الحكومة الفرنسية للجزائر يوم الأحد. كان من المفروض أن تشكّل الزيارة قفزة للأمام في مسار العلاقات الثنائية، لأنها كانت ستتضمن، لأول مرة منذ قرابة أربع سنوات، اجتماع اللجنة العليا المشتركة برئاسة رئيسي حكومتي البلدين. وكان من المفروض أن يُشكّل اجتماع اللجنة العليا المشتركة، المقرر له أن يلتئم سنويا لكنه لم يفعل منذ 2017، فرصة لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني بين البلدين. لكن العكس تماما هو ما حدث.
عكس التوقعات، تأجلت الزيارة فجأة قبل 48 ساعة من موعد بدئها.
بسرعة تحركت الآلة الإعلامية في العاصمتين، الجزائر وباريس. في الجزائر اشتعلت الصحف والمواقع الإخبارية هجوما على فرنسا، وفي باريس تولت صحف اليمين الموضوع فاختارت صحيفة «لوفيغارو» مثلا، (عدد الخميس الماضي) العودة إلى اتهام المخابرات الجزائرية في قضية رهبان تيبحيرين وقتلهم الغامض في سفوح جبال متيجة قبل ربع قرن. كما ركب الموجة أحد هواة السياسة برتبة وزير في الحكومة الجزائرية ووصف فرنسا بأنها العدو التقليدي والأزلي. المشكلة ليست في التهمة لكن في الطريقة!
رسميا، اختار الطرف الجزائري الصمت، رغم أنه صاحب قرار التأجيل، وترك للفرنسيين بذل جهد احتواء الحرج. برَّرت باريس القرار (الجزائري) بالوضع الوبائي وقالت إنه يمنع تنظيم الزيارة ونجاحها.
غير أن التبرير الفرنسي أبعد ما يكون عن الحقيقة. سبقت الزيارة كل التحضيرات المطلوبة. التقى المستشارون المكلفون بصياغة تفاصيل الزيارة في الجزائر وقاموا بالمطلوب منهم وهم يدركون، مثل رؤسائهم، أن جائحة كورونا موجودة قبل الزيارة وستبقى بعدها، ولا يمكن أن تؤجلها حتى ولو أثّرت على بعض تفاصيلها.
في حقيقة الأمر أن قرار تأجيل الزيارة هو محصّلة لتراكمات جزائرية، مرات عن حق ومرات لا، إزاء كل ما هو فرنسي. هذه المرة يمكن الإشارة إلى سبيين أيقظا الحساسية الجزائرية. الأول تقليص تشكيلة الوفد الفرنسي الذي كان سيرافق رئيس الحكومة جان كاستيكس من ثمانية وزراء إلى أربعة. على الأغلب اضطر الفرنسيون لتقليص تشكيلة الوفد لأسباب داخلية: رئيس مأزوم ومحاصَر، حكومة مرتبكة، اقتصاد يترنح بسبب وضع وبائي يوشك على الخروج عن السيطرة ومشاكل أخرى على بُعد عام من الانتخابات الرئاسية.
هناك ضرورة تملي على السلطات الجزائرية التفكير في التأقلم مع الواقع الجديد، لأن المضي في ربط مصالح الجزائر العليا بموضوع الصحراء المغربية سيكون مكلفا على المدى البعيد
لو أن الفرنسيين قلّصوا تركيبة وفد حكومي كان على وشك زيارة الكاميرون أو روسيا أو الأرجنتين، فمن المستبعد أن تكون النتيجة أن يغضب الطرف المضيف ويلغي الزيارة عشية موعدها. لكن عندما يتعلق الأمر بالجزائر تدخل عوامل متعددة فتتشكل وصفة معقّدة تحيل الأمر إلى أزمة.
السبب الآخر وراء غضب الجزائريين يكمن في قرار حزب الرئيس ماكرون «الجمهورية تسير» فتح مكتب له في مدينة الداخلة (وآخر في أغادير). هذا السبب قد يكون الأهم، لكنه لا يُذكر، لا في باريس ولا في الجزائر، في تفسير رد الفعل الجزائري الحاد.
من المعروف أن الدولة الفرنسية وأذرعها السياسية والإعلامية وملاحقها الرسمية وغير الرسمية، تدعم المغرب في قضية الصحراء المغربية، ومنذ اليوم الأول، بغض النظر عن الحزب الحاكم وعن انتماء رئيس الجمهورية. لكن رغم ذلك، من الصعب القول إن قرار حزب «الجمهورية تسير» يمثل الدولة الفرنسية التي لم تجرؤ بعد على افتتاح ممثلية دبلوماسية في مدن الصحراء المغربية.
قد يبدو فتح مكتب لحزب فرنسي في الداخلة، نظريا، مجرد حركة رمزية قليلة الجدوى السياسية والاستراتيجية. لكن الأمر ليس كذلك، لكون السياسيين الفرنسيين يُدركون حساسية موضوع الصحراء لدى السلطات الجزائرية. ويدركون أن العلاقات الجزائرية المغربية تمر هذه الأيام بتوتر صامت لكنه عميق. وقرار فتح مكتب لـ«الجمهورية تسير» تزامنا مع هذا التوتر يعني شيئا مبيّتا ولا يخدم العلاقات الجزائرية الفرنسية.
فتح مكتب في الخارج، لأي حزب في أي مكان، لا يخلو من الرمزية والموقف. لو أن الأمر خالٍ من الحسابات السياسية، لماذا لم يفكر حزب ماكرون في فتح مكتب بمناطق توتر أخرى، شمال شرق سوريا أو شبه جزيرة القرم مثلا؟
لكن يبقى سؤال جدير بالطرح: هل من الحكمة أن يربط حكام الجزائر (أو أي بلد آخر) مصالح الدولة وعلاقاتها بقرارات وتصرفات يصعب توقعها ولا يمكنهم التحكم فيها؟ أليس يمكن الدفاع عن البوليساريو وفي الوقت ذاته حماية مصالح البلاد العليا؟
هناك ضرورة للإقرار بأن موضوع الصحراء المغربية تراجع في الأجندة الإقليمية والدولية. وعندما يبرز إلى الواجهة، ففي الغالب في اتجاه لا يخدم جبهة البوليساريو والموقف الجزائري الداعم لها. من السهل ملاحظة أن الانطباع العام يضع المغرب غالبا في حالة فعل والبوليساريو والجزائر في حالة رد فعل.
هناك أيضا ضرورة تملي على السلطات الجزائرية التفكير في التأقلم مع الواقع الجديد، لأن المضي في ربط مصالح الجزائر العليا بموضوع الصحراء المغربية سيكون مكلفا على المدى البعيد، ولأن التغييرات الإقليمية والدولية تدعو إلى توقّع المزيد من القرارات المشابهة لقرار «الجمهورية تسير».. بغض النظر عن شكليتها وجدواها على الأرض من عدمها.