كنت نأيت عن الخوض في موضوع العلاقات المغربية الجزائرية، لأنني اعتبرت أن الظرف لم يعد سانحا لطرحٍ موضوعي. إلا أن قضية ما عُرف بعرجة أولاد سليمان، أخرجني عن تحفظي. فصول القضية معروفة، وهي أن القوات العسكرية الجزائرية أخْلت مزارعين مغاربة من موقع عرجة أولاد سليمان، التي توجد بمقتضى اتفاقية الحدود المبرمة بين المغرب والجزائر سنة 1972، في التراب الجزائري. قانونيا، لا أحد يجادل في سيادة الجزائر على تلك الرقعة. المعاهدة ملزمة للمغرب، ولم يجادل فيها، ولم يعتبر أنها موضع نزاع، وما يحسب لسلطات البلدين، هو عدم التصعيد في ما يخص النزاع.
لكن المشكل المطروح ليس ذا طابع قانوني، إذ الموضوع أعقد من ذلك، أو أبسط، حسب الزاوية التي يُنظر منها، فالمكان هو امتداد لما يُعرف بأراضي الجموع (الملكية الجماعية) لقصر (قرية) أولاد سليمان، وهو من جملة القصور المكونة لواحة فكيك، قبل وضع الحدود، ومرد التعقيد أنه مع وضع الحدود انفصل القصر الذي يوجد على التراب المغربي، عن مجال انتفاعه، الذي يوجد على التراب الجزائري. وكان للمشكل أن يكون بسيطا لو أن الحدود لم تنتقل من الخرائط لتؤثر سلبا في نظام عيش جماعة كانت هناك قبل وضع الحدود.
لم تعرف المنطقة الموجودة شرق المغرب وغرب الجزائر حدودا إلا في أعقاب احتلال فرنسا للجزائر، وإلزام السلطات الفرنسية المغرب برسم حدود بعد هزيمته سنة 1844، فيما يعرف باتفاقية للامغنية سنة 1845، واعتبرت أن ما يوجد جنوب فكيك لا يستوجب تحديدا، لأن الأرض لا تحرث. إلا أن السلطات الفرنسية حينها أخذت بالعرف الساري، ولم تمنع القبائل ولا الأسر ولا الأفراد من التنقل للكلاء والنجعة، أو لاعتبارات اجتماعية. وللتذكير إن هاجس فرنسا حينها، كان التضييق على حركة الأمير عبد القادر، حتى لا يجد سندا (أو عمقا استراتيجيا) في قبائل المغرب، سواء من بني يزناسن أو قبائل الريف، شمالا، أو في قبائل المهاية وحميان، في الوسط، والعمور وأولاد جرار جنوبا، وفرضت فرنسا على سلطان المغرب، وقف أي دعم للأمير، علما أنه وقواته، شاركوا في معركة إسلي. ظلت اتفاقية للامغنية هي المرجعية لرسم الحدود بين فرنسا لما كانت محتلة للجزائر، والإيالة الشريفة، كما كان المغرب يعرف حينها، وعرفت تحويرا منذ 1902، حين كانت فرنسا بصدد شق خط حديدي من وهران لبشار. بقيت اتفاقية للامغنية هي المرجعية حتى في الحدود المبرمة سنة 1972. وحينما فرضت فرنسا «حمايتها» على المغرب، سنة 1912، تعاملت السلطات الفرنسية بنوع من المرونة مع المناطق الشرقية للمغرب، بالنظر للوشائج الاجتماعية التي تعمقت عبر التاريخ، مع بني عمومتهم ممن أضحوا تحت إدارتها في التراب الجزائري، إذ لم تكن هناك حدود ثقافية، أو حتى طبيعية، وصاغت مصطلح «التخوم الجزائرية المغربية» للتعامل مع هذه المنطقة، ولم تضيق في ما يخص التنقل والنجعة والانتفاع. وكان ليوتي المقيم العام (المندوب) الأول للمغرب، ومَن اشتغل قبلها حاكما في العين الصفراء في (الجزائر) وقائدا بعدها لمنطقة وهران، يعتبر أن لمنطقة التخوم، هنا وهناك، هوية خاصة. هذه الوحدة الثقافية، فضلا عن آصرة الإسلام، هي التي جعلت قبائل بني امْحمد وآيت خباش في منطقة تافيلالت في المغرب يهبّون لنصرة إخوانهم في الدين، حين أطبقت فرنسا قبضتها على واحة تيميومين، ومات أغلبهم في المواجهة، وأقيم رباط لأراملهم وأبنائهم غير بعيد عن بوذنيب يعرف بتافرغانت (كلمة أمازيغية تعني الحِمى) غير بعيد عن المكان الذي وُلدت فيه. وحين قامت حركة المجاهد بوعمامة ضد فرنسا، كانت واحة فكيك عمقا استراتيجيا له، وانضوى أهاليها في ركابه، وقصفت فرنسا فكيك، عقابا لساكنتها، مما يَذكره أهالي فكيك بفخار.
ظلت واحة فكيك حالة خاصة من جملة مناطق التخوم. تشكل واحة فكيك وحدة متكاملة، يوجد جزء منها على التراب الجزائري، وجزء منها على التراب المغربي، فصلتها السلطات الاستعمارية لما أقامت الخط الحديدي في بداية القرن الماضي، الذي يربط بين وهران وبشار، واعتبرت أن ما يوجد غرب الخط في الواحة يدخل في دائرة المغرب، وما يوجد شرقه في التراب الجزائري. بيد أن هذا التقسيم لم يجهز على العلاقات الإنسانية، والتداخل بين الجزأين. فعلى سبيل المثال، يوجد قصر (قرية) الوداغير، على التراب المغربي، ويوجد ضريح الولي سيدي عيسى بن عبد الرحمن، الذي يتحدر منه ساكنة القصر، على التراب الجزائري، ويُنسب للولي نشر الإسلام في تلك الربوع، وكان الأهالي من قصور فكيك (في التراب الغربي) يتبركون بزيارته، وينتقلون في المناسبات الدينية، خاصة في عيد المولد النبوي، مشيا على الأقدام. لم تكن هناك حدود ثقافية ولا اجتماعية في منطقة التخوم. وإذا كان العالم العصري يقوم على حدود مادية، فهل ينبغي والحالة هذه إجراء حدود إنسانية، أو بتعبير آخر قطع الأرحام؟ الحدود المادية، أو التي تجريها الأدوات القانونية لا تطرح مشكلا حين تُبقي على العلاقات الإنسانية، والأعراف السارية، وتصبح مشكلا حين تقطع تلك العلاقات… في رصد تاريخ العلاقات المغربية الجزائرية، بعد الاستقلال، لم تكن القضايا المرتبطة بالحدود تُطرح بين البلدين، إلا غطاء للخلافات السياسية. لم تكن هي المشكل، بل ذريعة للتعبير عن خلافات سياسية، معلنة أو مضمرة.
إذا كان العالم العصري يقوم على حدود مادية، فهل يقود هذا لإقامة حدود إنسانية، أو بتعبير آخر قطع الأرحام؟
قد يعاب على الطرفين عدم الوقوف عند الحالات الخاصة، التي تطرحها مناطق الحدود، وعدم وضع تتمة من خلال اتفاقيات الاستيطان، وعدم إنشاء لجان لتدارس الحالات الخاصة… لم يكن ذلك ممكنا بالنظر للتوتر الذي طبع العلاقات بين البلدين. مع الانفتاح الذي عرفته العلاقات بين البلدين منذ يونيو 1988 وإعادة العلاقات الدبلوماسية التي كانت مقطوعة، بادر المغرب إلى المصادقة على الاتفاقية من خلال خطاب للملك الراحل الحسن الثاني، بمناسبة عيد العرش سنة 1989.. شكلت عقب المصادقة على الاتفاقية من قِبل المغرب، لجنة مشتركة، لتدارس مشاكل الحدود، برئاسة وزيري داخلية البلدين حينها، المرحوم الهادي لخضيري عن الجزائر، والمرحوم إدريس البصري عن المغرب، وبدأ أول اجتماع على مستوى واليي كل من وجدة وتلمسان، في تلمسان. كل هذا للتدليل على الوعي بوجود حالات خاصة، وضرورة التعاون من أجل الانكباب عليها، إلا أن عمل التعاون في المناطق الحدودية توقف منذ سنة 1992.
اتفاقية الحدود المبرمة بين البلدين مُلزمة، ولكنها لا تقوم حجة لقطع الروابط الإنسانية والإجهاز على الحقوق التاريخية للأهالي، أو المساس بحق المِلكية، إذ السيادة لا تلغي المِلكية وواجب التعويض حين يتم نزعها. من حق السلطات الجزائرية القيام بالإجراءات التي من شأنها ضمان أمنها، ولكن هل يقوم ذلك حجة للمساس بحق الملكية، وقطع الروابط الإنسانية بين أسر وقبائل هي ذات واحدة، توزعت بين بلدين، ونظامين وتوجهين متضاربين؟ هل ينسجم ذلك مع مبدأ «مغرب الشعوب» وعدم لعنة المستقبل الذي كانت القيادة الجزائرية تنادي به على الدوام؟ تحضرني صور مؤلمة لواحد من المتضررين في واحة عرجة أولاد سليمان، وهو يقول متهدجا، إنه وإخوانهم الذين لا تفصل عنهم إلا فراسخ «مشاركين» أي مشتركين في أواصر اجتماعية. ألم يكن ممكنا أن تكون واحة العرجة صلة وصل، عوض أن تتحول إلى عامل فصل؟ ألم يكن ممكنا أن تتحول إلى جذوة توقد وهج الأواصر المشتركة بين الشعبين؟ أم أن الجذوة ستخبو بعد حادثة عرجة أولاد سليمان، بسبب الحسابات السياسية الظرفية؟