في بلد ما زال متأثرا بالاعتداء الذي طال الأستاذ صامويل باتي، الذي قتل على يد متطرف إسلامي من أصول شيشانية، يتشعب الجدل بين مستنكري ما يصفونه بالانجراف نحو “اليسار الإسلامي” في الجامعات الفرنسية، وحملات اتهام بعض الأساتذة برهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا).
وتتعلق الحادثة الأخيرة في هذا الشأن بأستاذين في معهد غرونوبل للعلوم السياسية، اتّهما بتصريحات مرتبطة بـ”رهاب الإسلام”.
وعلى رأس الاستنكارات، دعا الاتحاد الوطني لطلاب فرنسا (أونيف) اليساري، إلى معاقبة الأستاذين اللذين كشف عن اسميهما الأسبوع الماضي عبر ملصقات على جدران المؤسسة التعليمية.
ورأت مديرة المعهد أن تصريحات أحد المدرسين كانت إشكالية للغاية، “فيما أدانت بوضوح شديد” حملة الملصقات التي “تعرض حياة الزميلين للخطر”.
وعبّر مدرس اللغة الألمانية عبر محطة “بي.أف.أم” عن أسفه لعدم تلقيه الدعم من مؤسسته في هذا الجدل، وقال “وصفني زملاء لي بالعنصرية ورهاب الإسلام”، فيما أعلن وزير الداخلية جيرالد دارمانان أنه تم وضع المدرّسَين تحت الحماية.
وقبل بضعة أسابيع، وضع أستاذ من تراب (منطقة باريس) تحت الحماية بعدما صرح بأنه تعرض لهجوم لأنه دافع عن باتي، وهو مدرّس قتل لإظهاره رسوما كاريكاتورية للنبي محمد، كانت قد نشرتها صحيفة شارلي إيبدو الساخرة.
وفي أحدث التحقيقات في قضية مقتل باتي، أقرت تلميذة بأنها أشعلت حملة كراهية على الإنترنت ضد الأستاذ الفرنسي بعد أن عرض على طلاب رسوم كاريكاتورية للنبي محمد، وقالت إنها كذبت وروجت إشاعات كاذبة عنه، كما أعلن محاميها.
وكانت الفتاة زعمت بأن باتي الذي قتل في أكتوبر، طلب من المسلمين مغادرة القاعة قبل عرض الرسوم، فيما قدم والدها شكوى قضائية وضخم الادعاءات على الإنترنت، ما دفع بلاجئ شيشياني في الـ18 إلى رصد باتي في مدينة كونفلان-سانت-أونورين جنوب غرب باريس وقتله.
والتلميذة التي سبق أن هددت بالطرد من المدرسة بسبب قلة الانضباط، لم تكن حاضرة حينها. ومذاك وجهت إليها تهمة التشهير، بينما وجهت إلى والدها ورجل آخر هو داعية إسلامي تهمة “التواطؤ في القتل” في هذه القضية.
وسرعان ما انتقلت قضية باتي إلى داخل أسوار الجامعات الفرنسية، وأحدثت جدلا أكاديميا واسعا مدفوعا بتيارات سياسية دخلت على خط الأزمة.
ومصطلح “اليسار الإسلامي” غالبا ما يستخدم في فرنسا من قبل سياسيي اليمين المتطرّف، لتشويه سمعة خصومهم اليساريين المتّهمين بالتغاضي عن مخاطر التطرّف الإسلامي والإفراط في الخشية من قضايا العنصرية والهوية.
وعبارة “اليسار الإسلامي” أطلقها قبل نحو 20 عاما عالم الاجتماع الفرنسي بيار أندريه تاغييف “للإشارة إلى أشكال انجراف يسار مؤيد للفلسطينيين صوب معاداة السامية”، وهي مثيرة للجدل في فرنسا. وقد تشعّب تعريفه واستخدم للتنديد بتراخي جزء من اليسار مع الإسلام المتطرف. وبالنسبة إلى المركز الوطني للبحوث العلمية، فإنّ العبارة لا تماشي “واقعا علميا”.
وفي فبراير، قدّرت وزيرة التعليم العالي فريديريك فيدال أن اليسار الإسلامي “يسمم المجتمع بأكمله” خصوصا الجامعات، في تصريح أشاد به اليمين واليمين المتطرف، ولكنّه تسبب بجدل في المجتمع التعليمي.
وفي أكتوبر الماضي، حذر وزير التربية جان ميشال بلانكيه أيضا من أن “الإسلام اليساري” يثير “الفوضى” في المؤسسات الأكاديمية الفرنسية.
وفي رد على تعليقات فيدال، أصدر مؤتمر رؤساء الجامعات بيانا أعرب فيه عن “صدمته إزاء نقاش عقيم آخر حول قضية اليسار الإسلامي في الجامعات”.
وأدان مؤتمر رؤساء الجامعات الذي يمثل رؤساء الجامعات الفرنسية، استخدام هذه التسمية المعرّفة بشكل مبهم، قائلا إنه يجب تركها لليمين المتطرف “الذي أشاعها”.
وقال الباحث فرانسوا روفان إن تصريحات الوزيرة الفرنسية “مجرد مبرر لإخفاء أزمة التعليم الجامعي في فرنسا”، مضيفا “باستهدافها للمؤسسات العلمية الفرنسية تكون فريديريك فيدال قد سقطت سقطة معيبة”.
واعتبر الصحافي فانسان تريموليه دو فيلرس على أعمدة صحيفة لوفيغارو الفرنسية أن “اليسار الإسلامي ما هو إلا أحد مظاهر حرب أيديولوجية اجتاحت الجامعات الأميركية، وكرّست في فرنسا الهوس بالعرق والجنس والهوية، عدا عن أنها فرضت مقولات تمّت إلى الأيديولوجيا كتفوق البيض والعنصرية الممنهجة، وقد أدت إلى حظر بعض المحاضرين وبعض البحوث عدا عن منع الاجتماعات المختلطة وحظرها على البيض”.
وقال مدير معهد العلوم السياسية في ليل بيار ماثيو “نحن في مرحلة تراجعية للنقاشات (…) هناك تجاوزات من كلا الجانبين، ويتم تفسير أدنى خطاب من قبل المدرّس-الباحث في ضوء رؤية شديدة الانقسام”.
وأوضح جيريمي بيلتييه مدير دراسات في مؤسسة جان جوريس، أن “الاتحاد الوطني لطلاب فرنسا تجسيد مثالي لما نسميه ‘الصحوة ضد العنصرية’. لديهم مشكلة حقيقية مع المناقشات وتقبل الرأي الآخر وحرية التعبير”.
وأضاف بيلتييه “هناك هوة بين أجيال داخل المجتمع التعليمي بشأن النسبية الثقافية ودعم العلمانية وحرية التعبير. كلما كنت مدرسا شابا، كانت لديك ميول أقل للدفاع عن القوانين الأخيرة المتعلقة بالعلمانية ولفهم الرسوم الكاريكاتورية لشارلي إيبدو”.
وتتجاوز الأمثلة حدود فرنسا، كما توضح نادية غيرتس أستاذة الفلسفة، التي تقول إنها كانت ضحية للتهديدات في بيئتها المهنية لدعمها باتي. وقالت لمحطة “أل.أن 24” التلفزيونية البلجيكية “العلمانية في بلجيكا أمر يعتبر مشبوها بشكل متزايد. لدينا الحق في أن نكون علمانيين لكن شرط تقديم تعهدات على أصعدة أخرى، كما لو أن العلمانية عيب يجب أن نتخلص منه”.
ولم يعد الجدل محصورا داخل جدران الجامعات، بل أصبح ينتشر على المستوى السياسي، قبل عام واحد من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وحول هذه الأسئلة، ما زالت الفجوة التقليدية بين اليسار واليمين ضبابية.
وفي أبريل 2022، يتوجه الناخبون الفرنسيون إلى صناديق اقتراع في انتخابات رئاسية تظهر استطلاعات الرأي أنها ستكون صراعا ساخنا بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والسياسية القوية مارين لوبان زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف.
ويعتقد على نطاق واسع أن ما يجري في جامعات فرنسا من جدل وانقسامات، لا يمكن فصله عن الحملات الانتخابية المبكرة بين يمين الوسط واليمين المتطرف في فرنسا، فيما تبدو حظوظ اليسار جيدة.
وأشار فيليب كوركوف وهو محاضر في معهد العلوم السياسية في ليون إلى أن “اليسار مشلول حيال هذه الأسئلة بين الذين يقللون من شأن قضية الإسلاميين المحافظين ومعاداة السامية ويلقون باللوم على التمييز العنصري، فيما ينفي آخرون الإسلاموفوبيا ويؤكدون تنامي معاداة السامية”.
وقال بيلتييه “في الواقع، فإن اليسار هو الذي ينقسم بين الذين يعتقدون أن الصراع الطبقي الجديد هو قبل كل شيء صراع عرقيّ، وأنصار مبدأ عالمي لم ينسوا أن اليسار كان في المقام الأول وقبل كل شيء الدفاع عن الشعب”.