إدريس الأزمي.. قيادات العدالة والتنمية في المغرب ومسارات التصدّع

ماموني

لا تزال قضية استقالة عمدة مدينة فاس، البرلماني والوزير السابق إدريس الأزمي القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية تتفاعل. تلك الاستقالة التي تقدّم بها مؤخراً من رئاسة المجلس الوطني للحزب ومن الأمانة العامة له. ويبدو أن ارتداداتها لن تنتهي قريباً، رغم محاولات الحزب الحاكم لملمة التصدّع الذي يضرب أركانه، بعد أن أعلن سعد الدين العثماني الأمين العام للحزب أن المجلس الوطني لـ“البيجيدي”، رفض استقالة الأزمي بأغلبية ساحقة، في مؤتمر عُقد السبت الماضي.

واليوم تتساءل قيادات تنتمي إلى حزبه ذاته؛ هل كان الأزمي قد استشار من هو أعلم منه بدهاليز السياسة ومكامن فخاخها قبل إن يقدّم استقالة لا طعم لها ولا لون، في هذا الوقت الميت من الزمن السياسي مع قرب الاستحقاقات الانتخابية؟ وما الذي تخفيه تلك الاستقالة وراءها؟

في رسالة استقالته قال الأزمي إن تنظيمه السياسي أصبح «يلاحق الواقع ويركض وراءه». والحقيقة أن السبب وراء ذلك ليس لأن الواقع أعقد وأسرع، وإنما لأن الحزب ركن إلى الواقعية المفرطة، وبات مستعدا للقبول بكل شيء، مسخرا مؤسساته للتبريرات، بعيدا عما كان يدافع عنه بالأمس.

ولاء جارف

ولم يكن مستغرباً اختيار الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية في اجتماعها الاستثنائي رفض استقالة الأزمي، وتمسكها به ليستمر في مهامه، قبل أن تقرّر تشكيل لجنة من أعضائها لزيارته ومراجعته في الموضوع.

اللاعبون في صناعة السياسة بحزب العدالة والتنمية ينتمون بالضرورة إلى الجناح الدعوي، أما أولئك الذين يتطلعون إلى المغامرة ضد استقرار واستمرار الحزب فلن يتمكنوا من ذلك دون موافقة شيوخ الجماعة ودهاقنة الحزب.

ويخلص المتابعون للشأن الحزبي بالمغرب إلى أن ما يقوم به الأزمي واجهة تعبّر عن طبيعة بنية العدالة والتنمية حيث يقوم بتصريف المواقف وتدبير الخلافات من داخل جماعة التوحيد والإصلاح الجناح الدعوي للحزب، والأجهزة تقوم فقط بتسويق القرارات لكي تظهر أنها ديمقراطية.

استقالات متكررة

إطلاق الأزمي العنان لدفاعه عن مكتسبات حزبه يستحضر معاناة الشباب المغاربة مع البطالة واشتغال الكثيرين منهم في ظروف عمل قاسية مقابل تعويضات “هزيلة”.

وكانت مبادرة لأعضاء العدالة والتنمية تحمل عنوان “مبادرة النقد والتقييم” قد اتهمت الأمانة العامة للحزب باحتكار محطة الحوار الداخلي وتهميش المجلس الوطني، ما تسبب في فقدان جلسات الحوار الداخلي القدرة على الإجابة عن الأسئلة التي مازالت مطروحة، كما ربط أعضاء آخرون مطالبهم بمؤتمر استثنائي لما أسموه بـ”نكسات الحزب الداخلية” من خلال قبوله بالشروط التي رفضها بنكيران وقبلتها حكومة العثماني التي برّرت هذا الأمر.

أما الأزمي المقرب من بنكيران فقد أكد قبل أن يستقيل أن مكتب المجلس الوطني عبّر عن احترامه وتقديره لتلك المبادرة باعتبارها تتوجه إلى إحدى مؤسسات الحزب، وهذه كلها مؤشرات تتناغم مع ما جاء في بيان استقالة الأزمي ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه من المساهمين في تدبيج مطالب المبادرة وتوجيه أعضائها.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يستقيل فيها الأزمي، فقبل وقت قصير من تجديد اختياره رئيسا لمجموعة حزبه بمجلس النواب وتأكيد الأمانة العامة أنه أهل لكل الثقة ومكانته يعلمها الجميع قدم استقالته من منصبه نافيا أن يكون “بطلا” بعد إقدامه على هذه الخطوة، بل كان مضطرا وإن لم يعجب المناضلين في الشبيبة الحزبية بشكل خاص.

اللاعبون في حقل صناعة السياسة في حزب العدالة والتنمية ينتمون بالضرورة إلى الجناح الدعوي، أما أولئك الذين يتطلعون إلى المغامرة فلن يتمكنوا من ذلك دون موافقة شيوخ الجماعة، والأجهزة تقوم فقط بتسويق القرارات لكي تظهر أنها ديمقراطية

لكن هناك من ربط تلك الاستقالة بفيديو “اللايف” الذي طرحه بنكيران، قبل عامين، مستنكراً فيه التصويت على القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، وحينها هدد بالانسحاب من الحزب الذي قال إنه “لم يعد يشرفه الانتماء إليه”؛ أي أن الأزمي كان رهينة بيد بنكيران ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا.

الأزمي الذي يبلغ من العمر 55 عاما هو رجل اقتصاد ودكتور في الكيمياء، تمت تربيته سياسيا وتنظيميا في المناطق الآمنة القريبة من القيادة وليس بين أحضان المجتمع وقواعد الحزب، وهذا له تأثير على بناء الأفكار والولاءات، ولا غرابة في أن يبقى ممتنا لمن أتى به واحتضنه وإن كان ذلك على حساب قوانين المؤسسات.

ويتساءل البعض هل كان الأزمي يهتم حين عمل حزبه في عهد بنكيران على مغازلة حزب الاستقلال واستبشر بتنصيب حميد شباط عمدة فاس السابق، باعتباره حليفا فعالاً لسياسة الحكومة، وحيّا شباط ما وصفه بصمود بنكيران في الدفاع عن مشاركة حزب الاستقلال في حكومته، قبل أن تنقلب خطط الطرفين ليصبح شباط وبنكيران عدوين لدودين؟

إلى أي جانب من الطاولة كان سينحاز الأزمي؟ ليفصح في الأخير أنه انضم إلى الشخصيات البارزة ضمن تحالف بنكيران ومريديه الذين راهنوا على سقوط العثماني من أولى الضربات التي وجهت له إثر تنصيبه رئيسا للحكومة خلفا لبنكيران، ولم يستطع الأزمي حينها لعب دور في تهدئة الأمور بين أنصار القيادة الحالية والسابقة داخل الحزب، رغم ترؤسه المجلس الوطني.

وكان الأزمي، إلى جانب قياديين مقربين من بنكيران، متحمّسا لعقد مؤتمر استثنائي للحزب، ليتبين موقفه الحقيقي من التّجربة الحكومية الحالية، واستقالته من هيئة تقريرية وتنفيذية دون أن يستقيل من منصبه كعمدة تتناسب مع حرصه على تكتيكات الحزب بالبقاء في مواقع القيادة في المشهد السياسي الحالي، وهي لا تعدو كونها توزيعا للأدوار، تلجأ إليه عموماً قيادات العدالة والتنمية للإيهام بأنها ديمقراطية، والحال أن جزءا من إستراتيجيتها هو التنصل من مسؤولية التدبير لتضليل الرأي العام بمظلوميتها.

لا تفريط بالامتيازات

يجمع الأزمي بين مهمات عديدة؛ فهو عمدة فاس ونائب برلماني يتمتع بامتيازات الإيواء الفندقي والتنقل والبنزين والاشتراك الهاتفي والخدمات الإلكترونية بشكل مجاني، بما يقدر بستة آلاف دولار شهريا. كما أنه كان وزيرا مكلفاً بالميزانية في حكومة بنكيران، اعتمادا على تجربته في منصب نائب مديرة الخزينة والمالية الخارجية، وأيضاً مسؤول عن التمويلات والعلاقات الخارجية بوزارة الاقتصاد والمالية.

غالبًا ما تصبح الأفكار السيئة شائعة بشكل ينذر بالخطر، بينما يتم التخلص من الأفكار الجيدة على جوانب طريق الأنانية والمحسوبية، ولهذا أثار الأزمي سخط فرق المعارضة ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، عندما هاجم نشطاء الفيسبوك الذين شنوا حملة شرسة لإسقاط تقاعد البرلمانيين والجمع بين المهام الانتدابية والأموال، واصفا إياهم بـ”الشعبويين” الذين يروجون كلاما غير صحيح بخصوص الامتيازات التي يحصل عليها كبار المسؤولين في الدولة.

استقالة الأزمي من هيئة تنفيذية دون أن يستقيل من منصبه كعمدة تتناسب مع حرصه على تكتيكات الحزب بالبقاء في مواقع القيادة في المشهد السياسي الحالي، وهو لا يعدو أن يكون سوى توزيع للأدوار

وبنوع من المرارة المفتعلة تساءل الأزمي “أين الثروة التي أنتجها هؤلاء المؤثرون الاجتماعيون؟ بالعكس يضببون المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلاد. وعوض أن يتركوا الأحزاب تقوم بدورها يضللون وينشرون الترهات ويخوضون في أعراض الناس، وهذا ما يجب مواجهته”.

وفي مشهد استعراضي تحدث الأزمي أمام النواب وهو يضرب بيديه على الطاولة قائلاً “هل تريدون من البرلمانيين والحكومة والولاة والعمال والرؤساء والمديرين والموظفين أن يشتغلوا دون أجر؟ في نهاية الشهر لن يجدوا ما يطعمون به أولادهم”.

كتاب المترادفات الخاص ببنكيران الذي ينهل منه الأزمي كان أكثر ثراءً بعد إضافة المفردات الجديدة، تلك التي وظفها للدفاع عن معاش البرلمانيين، في تبرير استقالته الأولى والثانية، وقد كان القيادي بالعدالة والتنمية، ربما، يمني النفس بالدخول على إثرها في مرحلة التحول إلى زعامة خطابية تليها قيادته للحزب.

بإطلاق العنان لدفاعه عن مكتسبات حزبه لا بد من استحضار معاناة الشباب المغاربة مع البطالة واشتغال الكثيرين منهم في ظروف عمل قاسية مقابل تعويضات “هزيلة”، لهذا هم ممتعضون من كلام الأزمي الذي يقول إنه لا يمكنه هو وغيره من البرلمانيين والمسؤولين الحكوميين أن يعملوا دون مقابل، وإن انتقادهم والمطالبة بإلغاء معاشاتهم بعد التقاعد “شعبوية تمارَس ضدّهم”، ليؤكد هؤلاء الشباب أنه “ليست هناك شعبوية أكثر من التي يمارسها الأزمي وحزبه”.

طموح الزعامة

Thumbnail

وصل الأزمي إلى منصب عمدة فاس في عام 2015، ولا يبدو أن هناك كثيرين ممن يهتمون بعودته مرة أخرى إلى إدارة المدينة، كونه لم يقدم شيئا يذكر على هذا المستوى، خاصة بعد هجومه على حزب الاستقلال الذي كان يُسير فاس في عهد عمدتها السابق حميد شباط، حين قال إن “فاس اتخذت طريقها نحو الإصلاح الحقيقي وغير مستعدة للعودة إلى الوراء”، وزاد بثقة في النفس قائلاً «إن حزب الاستقلال لن يسيطر مرة أخرى».

أما خصومه السياسيون فيقولون “ألقوا نظرة على مكانة المدينة التي أضحت في عهده متدهورة، استشرت فيها البطالة، ومشاريعها متوقفة وغير ذلك من سليبات التدبير”. ربما يورد البعض أن منتقدي الأزمي يهتمون فقط بالتشكيك في تدبيره السياسي للمدينة وجمع أدلة غير متماسكة بغرض تقويض حصول حزبه على موضع قدم في المدينة، لكن يرد خصومه بأن الأزمي غرٌّ في السياسة ولم يكن له تاريخ نضالي داخل هياكل الحزب وإنما الدعم الذي لقيه من القيادة السابقة للحزب هو من قدمه واحتضنه.

في المحصلة، يصعب على البعض فهم المفاضلة بين الأهداف البراغماتية والأهداف الاجتماعية للرجل، فمطالبة الأزمي بضرورة أن يستجمع الحزب نفسه ويستعيد المبادرة ويسائل القيادة “قبل فوات الأوان” تناقض كلامه بخصوص المحافظة على موقع الحزب بمدينة فاس ضد منافسه حزب الاستقلال، معتبرا بلغة أكثر مخاتلة أنه مع استعادة دور الحزب، ليس ليحضّر نفسه للاستحقاقات المقبلة، أو ليرأس الحكومة، أو حتى يشارك فيها، فعلى حد قوله ”لا ينبغي أن يكون هذا هو المراد”. وهنا يبرز الفارق في تصور المنفعة السياسية لدى الأزمي بين حضور حزبه، وبين فرص نجاحه في ما فشل سابقوه بتحقيقه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: