الأحزاب ذات المؤسسات الضعيفة أقل فاعلية في احتواء الخلافات الداخلية وتمثيل ناخبيها وهذا يضعف ويقوض أداءها الانتخابي. نختبر هذه المقولة من خلال تصورات الناخبين والمتابعين لوضعية حزب العدالة والتنمية وأدائه قبل الانتخابات وخلال إدارته للشأن الحكومي والمحلي، مستخدما حيلة الاستقطاب العاطفي عبر العزف على وتر المظلومية والهوية والمخاوف بشكل انتهازي، وهذا يتطلب منا التعرف على الإنذارات الكاذبة.
لقد استفاد العدالة والتنمية من منطق انتخابي خاص لم يكن من الممكن تصوره قبل خروج المتظاهرين إلى الشارع في العشرين من شهر فبراير الماضي، بعد أن ساءت الحظوظ الانتخابية لجميع الأحزاب الرئيسية في المرحلة السابقة واستفاد منها العدالة والتنمية. ويرجع ذلك إلى التفكير قصير المدى المتمثل في عدم الثقة بالحكومة. فهل بنفس هذا المنطق والتفكير يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية سيهبط من المرتبة الأولى التي يحتلها حاليا؟
بعد نجاح العدالة والتنمية في قيادة حكومتين على مدى عشر سنوات، كانت النتيجة أن المواطن المغربي أصيب بخيبة أمل ولم تعد لديه ثقة في حكومة يقودها الحزب. وسبب الغضب أن الحزب رفع شعارات ضخمة وأغدق وعودا لم يحقق منها حتى النزر اليسير. ومع ذلك ورغم الظروف التي يعيشها الحزب توقع عدد من القيادات، وعلى رأسهم الأمين العام سعدالدين العثماني، أن يكتسح الحزب الانتخابات المقبلة ويحقق المرتبة الأولى بفارق معتبر.
لا بد من أخذ الحذر من التنبؤات السابقة لأوانها، خصوصا أن العدالة والتنمية يعمل على إحياء الصراعات التقليدية بينه وبين الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار وشيطنتهما معا لإضعافهما، غير منتبه إلى حقيقة أن المواطن أصبح واعيا بتلك المخططات. وأن تلك الأحزاب، ومعها أحزاب أخرى، تدخل المنافسة من خلال ما يمكن وصفه بالتجديد السياسي القادم من القواعد وبتأثير من وسائل التواصل الاجتماعي.
وإذا كان العثماني قد اعتبر باقي الأحزاب خصوما، مقللا من قدرتها على محاصرة حزبه، ومؤكدا أن البعض يتحدث عن خطر الولاية الثالثة للبيجيدي (حزب العدالة والتنمية)، ويحاول ترميم بيته من الداخل خوفا منه، فإن عبداللطيف وهبي الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة يؤكد وبنفس الثقة أن حزبه سيكون بديلا للموجودين اليوم في الحكومة. وهي إشارة تحدٍ قوية أطلقها غريم للعدالة والتنمية قبل الانتخابات المقبلة؛ معتبرا تنظيمه مخيفا بالنسبة إلى الجميع لأنه يزداد قوة يوما بعد يوم.
هناك طيف من أعضاء العدالة والتنمية يقتات على فكرة طوباوية مفادها أن الحزب لا يُقهر، وهو قادر بفضل قاعدته الانتخابية على محاربة طواحين الهواء. وقد يكون أحد مفاتيح الخروج من هذا المطب القاتل، الاستئناس بما قاله نائب الأمين العام للحزب سليمان العمراني بأنه “لا يمكن للحزب، بسبب من قوته الانتخابية، أن يملك القرار وحده”.
بالمنطق السياسي والحسابي لا يمكن دخول معترك الانتخابات والبيت الداخلي مفكك ويحتاج بدوره إلى الترميم. العدالة والتنمية يعيش ظروف هذه الأزمة التي آخر تمظهراتها تجميد عبدالإله بنكيران رئيس الحكومة والأمين العام السابق للعدالة والتنمية عضويته بالحزب في رسالة مكتوبة بخط اليد عبر حسابه على فيسبوك بتاريخ 11 مارس 2021، مع قطع علاقاته مع قيادات حزبه وعلى رأسهم العثماني ومصطفى الرميد وعزيز رباح ومحمد أمكراز، وهم وزراء مشاركون في الائتلاف الحكومي إلى جانب الوزير السابق لحسن الداودي.
لا بد من أخذ الحذر من التنبؤات السابقة لأوانها خصوصا أن العدالة والتنمية يعمل على إحياء الصراعات بينه وبين الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار غير منتبه إلى وعي المواطن بتلك المخططات
أراد بنكيران من تجميد عضويته، التي عاد وتراجع عنها يوم الخميس الماضي، تحقيق هدف مزدوج، الأول شحن طاقته السياسية والتحشيدية داخل هياكل الحزب، والثاني استعادة مشروعية وجوده التي انخفضت كثيرا خلال سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها. وكانت نية بنكيران منذ إعفائه من تشكيل الحكومة في العام 2017، تفخيخ الحقل أمام الرجل الذي سيحل محله في الحزب وفي الحكومة.
لقد وصل الجفاء بين أعلى قيادات حزب العدالة والتنمية مداه، ما يطرح تساؤلات حول الديمقراطية الداخلية وحرية الرأي، وهل هي مجرد نغمة للاستعطاف الداخلي والتبجّح الخارجي.
لم ينضبط عدد من قيادات وقواعد الحزب لتوجيهات العثماني بعدم التعليق حول ما صدر عن بنكيران، سواء من الجناح الموالي للأمين العام السابق أو من المتعاطفين مع رؤية رئيس الحزب الحالي. ما يعني أن حلقة أساسية في هذا التنظيم تصطدم مع الواقع الجديد، وهي الانضباط لمؤسسات وقيادة الحزب، وهو ما يستدعي التشكيك في قدرة القيادة الحالية أو القادمة على التعامل مع مثل هذه الأمور، ويهدد بتزايد التوترات والصراعات التي تؤثر على صنع القرار الداخلي.
هناك من يتوقع عودة قوية لبنكيران من جديد رغم إحالته على التقاعد حتى وإن دفعته ظروف حزبه والمحيط إلى تأسيس حزب سياسي جديد. ونعتقد أن الأمر جد معقد والزمن المادي والسياسي لا يسعف الرجل للبدء من جديد من نقطة الصفر. إضافة إلى أن دبلوماسية الجنائز التي يعتمد عليها في تصريف حساباته السياسية بلبوس وعظي لا يمكن الركون إليها في الواقع السياسي.
ويعتبر رفض محمد الحمداوي عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ورئيس حركة التوحيد والإصلاح سابقا التنصيص على تجريم التطبيع مع إسرائيل في البيان الختامي للمجلس الوطني الأخير للبيجيدي، فتوى سياسية وشرعية تعني أن الحزب وذراعه الدعوية غير مستعدين للمغامرة بإعطاء فرصة سياسية أخرى لأطروحة بنكيران المناقضة لتوجهات الدولة.
في المحصلة لا بد أن يؤدي الامتياز الانتخابي عبر صناديق الاقتراع إلى إعادة توزيع السلطة التنفيذية والتشريعية بما يخدم التوازن في المشهد الحزبي ويبني الثقة بين المواطن والمؤسسات السياسية ويضع خارطة طريق لإنقاذ الديمقراطية بكل حمولتها السياسية والتمثيلية من خلال استغلال التوقيت المتزامن لاتباع نهج الإصلاحات التي دشنتها الدولة والاستمرار في ورش مفتوحة اجتماعيا وسياسيا وحقوقيا ودبلوماسيا.