أن يهرب البعض إلى التدين الشامل في مرحلة من مراحل حياته شعر فيها بضيق العيش وانسداد الأفق فيكون الدين ملاذه الأخير يعوض من خلاله نفسيا ما عجز عن تحقيقه واقعيا، أمر طبيعي أحيانا.
ولكن الغريب أن يسلك النظام في الجزائر نفس هذا السلوك عبر خطب مبطنة مستغلا موجة التدين التي تجتاح البلد منذ أكثر من عشريّتين. ولا ينشد النظام نشر التقوى والصلاح، ففاقد الشيء لا يعطيه، بل يريد تحقيق أهداف أخرى على رأسها امتصاص غضب الجزائريين وتقديم فشله الذريع على أنه أمر مقدر من الله، وعلى الجزائريين الصبر على ما شاء وقدّر.
بغض النظر عن الاستيراد الغبي لشبه معلمين من الإخوان المسلمين كان عبدالناصر يخرجهم من السجن ويرسلهم في بعثات تعليمية إلى الجزائر عقب استقلالها، ينشرون أفكار حسن البنا وسيد قطب بين التلاميذ الجزائريين، استقدم النظام الجزائري في الثمانينات وجهين من وجوه الأصولية العالمية محمد الغزالي ويوسف القرضاوي ليحقنا الشعب الجزائري بلقاح “قبول الأمر الواقع” بعدما أفلس النظام ماليا إثر انهيار أسعار النفط.
أصبح الغزالي صديقا لرئيس الجمهورية ومستشارا غير رسمي له ومديرا لجامعة العلوم الإسلامية في قسنطينة ومقدم حديث أسبوعي مسموم على القناة التلفزيونية العمومية، الوحيدة آنذاك. وصار يوسف القرضاوي ضيفا دائما على الجزائر بعد أن عشق طالبة جزائرية تصغره بحوالي 50 سنة.
وفي الحقيقة النظام هو من نشر بين الشباب فكرة “مثالية الدولة الإسلامية” على الطريقة الإخوانية، فهو الذي قام بأسلمة ونشر الفكر الأصولي في المجتمع، وكان من الطبيعي أن يحاول المجتمع أسلمة الدولة في ما بعد، والتي نتجت عنها عشرية دم ودموع وخراب.
ولم يتعظ النظام من كل هذا الخراب، إذ بعد أن هزم الجيش بمساعدة حاسمة من الشعب الجزائري الإسلاميين عسكريا ومنعهم من الوصول إلى السلطة، جيء بالرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة ليعقد معهم عقدا يعفو على جرائمهم تحت اسم “الوئام والمصالحة الوطنية” مقابل امتيازات وأموال طائلة، ثم قدم لهم المجتمعَ الجزائري كهدية مرة أخرى فزرعوا فيه تدينا شعبويا قاد الأغلبية إلى نوع من الاتكالية اللاعقلانية التي يحاول النظام استغلالها اليوم بطرق ماكرة.
وسائل الإعلام التي دجّن النظام الجزائري أغلبها تدجينا كاملا تعمل على نشر ثقافة دينية قروسطية لا علاقة لها بالعصر فتركز على أخبار الدجالين والمحتالين ومآثرهم الكاذبة في علاج الأمراض المستعصية
وإن كان النظام يتشدق في محاربته للأصوليين بمبدأ عدم استغلال الدين لأهداف سياسية، إلا أنه لا يتوانى لحظة واحدة عن ممارسة العكس، فيستعمل رجال دين رسميين يأتمرون بأوامره لجذب الشعب إلى صفه، يصدرون فتاوى تحرم الخروج عن طاعة الحاكم حتى وإن كان ظالما.
ورغم تأكيد النظام على “حرية التفكير” في الدساتير المتعاقبة – لا أثر لذلك في الواقع – فهو يسمح للإسلاميين بالسيطرة على قطاع القضاء والمحاكم وعلى وسائل الإعلام بفرض قرارات وانتهاج سلوكيات شعبوية، كتوزيع نسخ القرآن على رجال الشرطة والأطباء، ومطاردة غير المسلمين، وتجريم الإفطار في رمضان وتنظيم صلاة استسقاء وراء أخرى بدل الاستمطار الصناعي. كل ذلك بحثا عن شرعية دينية في غياب الشرعية السياسية.
كما تعمل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، التي دجّن النظام أغلبها تدجينا كاملا، على نشر ثقافة دينية قروسطية لا علاقة لها بالعصر، فتركز على أخبار الدجالين والمحتالين ومآثرهم الكاذبة في علاج الأمراض المستعصية كالسرطان والإيدز وكوفيد – 19، وإخراج الجن من أجساد الفتيات. ولكنها لا تذكر على الإطلاق ألوفا بل الملايين من المحتجين الذين يخرجون لقول “لا” للنظام كل أسبوع.
ولأول مرة في تاريخ الرئاسة الجزائرية يوظف الرئيس عبدالمجيد تبون مستشارا رسميا له في الشؤون الدينية. كما لم يحدث أن تحدث رئيس من رؤساء الجزائر بتلك اللغة الدينية التي يستعملها تبون، إذ لا تختلف بدايات خطبه عن كلام أي إمام في مسجد أثناء خطبة الجمعة. وفي الوضع المتأزم الذي تعيش فيه البلاد، يجد الرئيس الوقت لمشاهدة فيديو ويشيد به، كما يحكي هو ذاته في لقاء مع الصحافة ظهر فيه يذبح خروفا بطريقة كئيبة ليقدمه كقربان من أجل شفاء الرئيس! كما تحدث في الخطاب نفسه عن الرعاية الإلهية التي حمته من فايروس كورونا متناسيا الرعاية الألمانية. إذا كان الأمر بهذه البساطة لماذا دفعت الخزينة الجزائرية كل تلك الأموال من أجل أن يعالج في بلد أنجيلا ميركل؟
بدأ يترسّم في الجزائر تدريجيا نظام ديني مواز يراقب عمل الهيئات العامة ومدى توافقها مع الشريعة. وأصبحت لجنة الفتوى سلطة فوق جمهورية وفوق علمية بمصادقتها على عمل اللجنة العلمية بخصوص ضرورة التلقيح ضد كوفيد – 19، مؤكدة أن رأيها مستل مباشرة من تعاليم الشريعة الإسلامية، وعلى خبراء اللجنة العلمية أن يشكروا فقهاء لجنة الفتوى التي أجازت خبرتهم!
ومع تلك المشاكل المزمنة التي يشهدها القطاع التجاري في الجزائر، لم يجد وزير التجارة ما يفعله سوى خلق “علامة حلال” ولجنة دينية توزع العلامة على المنتجات الجزائرية.
أصبح التساؤل مشروعا اليوم: هل يعيش الجزائريون تحت نظام جمهوري أم تحت أحكام الشريعة؟