خلال أحداث أكتوبر 1988، كانت خمسة أيام من المظاهرات وأحداث الشغب والعنف كافية لصناعة تحول عميق في الجزائر، لكن في حراك 2019 استنفذت البلاد عامين ودخلت الثالث، ولم يتحقق شيء من الذي يأمله الشارع الجزائري. وإذا انتهت الأولى إلى عشرية دموية، فإن الثانية لم تبرح مربع الصفر، الأمر الذي يزجّ بالجزائر في نفق مسدود لا أحد يعلم نهايته.
فاجأت الآلاف من النسوة بالنزول إلى شوارع العاصمة في اليوم العالمي للمرأة، من أجل الاحتجاج على الأوضاع السياسية السائدة، وللتأكيد على التمسّك بالمطالب الأساسية للحراك الشعبي، المتمثلة في التغيير السياسي الشامل والرحيل الفوري والكامل للنظام السياسي القائم.
وكما لم يكن في أجندة السلطات الأمنية والإدارية وناشطي الحراك الشعبي أنفسهم، أن تخرج الآلاف من النسوة في يومهن العالمي، ليس للاحتفال أو المطالبة بحقوق ضائعة، وإنما لترديد شعارات وأهازيج سياسية باتت مصدر إزعاج حقيقي للسلطة في الآونة الأخيرة.
وأظهر الحراك الجزائري قدرة على صناعة المفاجأة وعلى إفراز أنفاس جديدة، بعدما ساد الاعتقاد لدى السلطة، بأن أحد عشر شهرا من تعليق المظاهرات بسبب تدابير مواجهة وباء كورونا كافية لإنهاء الأحداث من المشهد، خاصة في ظل توازي عمل الآلة الأمنية مع خارطة طريق سياسية.
لكن في المقابل كانت الدوائر الرسمية والحكومية تحتفل على طريقتها الاستعراضية والفلكلورية باليوم العالمي للمرأة، وتلوّح برسائل التهنئة والتبجيل لها وتكريمها في مختلف المؤسسات، وكان الخطاب مركزا على المكاسب التي حققها قانون الانتخابات الجديد للمرأة الجزائرية، بعدما اشترط مناصفتها مع الرجل للوائح الترشيح في الانتخابات التشريعية المبكرة المنتظرة خلال السداسي الجاري.
ومع استمرار القبضة الحديدية بين السلطة والحراك، يستمر معها الأفق المسدود والمستقبل الغامض للبلاد، فالفجوة سائرة في التمدّد، مع رهان السلطة على فرض الأمر الواقع عبر تجسيد مسار سياسي يوحي بفرز مؤسسات جديدة تعطي الانطباع بتحقيق التغيير السياسي، ومع رمي الحراك كل شيء خلفه بعدما اعتقد بأن “القيام بنصف ثورة هو كمن يحفر قبره بيده”.
ويبدو أن السلطة التي مسكت بخيط واحد منذ تنحي الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة في مطلع أبريل 2019، من أجل تجديد نفسها وترتيب أوراقها، لم تقرأ جيدا نبض الشارع، فالرهان على الآلة الأمنية وعلى وباء كورونا لم ينه الحراك الشعبي، بل صنع موجة جديدة من الاحتجاجات السياسية، حملت خطابا أكثر راديكالية وتطرّفا.
وإذا كان القائد السابق للجيش الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، قد استطاع التلاعب بمطالب الشارع، عبر توظيف مطالب الحراك لتنحية بوتفليقة والتخلص من خصومه السياسيين والعسكريين، واستقطاب أنصار له في الشارع، فإن السلطة التي خلفته في المؤسسة العسكرية ورئاسة الجمهورية والحكومة، ليست في مستوى شخصيته “الكاريزمية”، وضيّعت على نفسها تعزيز الوعاء الشعبي الذي ناصر قايد صالح.
وتكون العودة القوية لخصوم الرجل إلى مفاصل الدولة، على غرار وزير الدفاع الأسبق الجنرال خالد نزار، ومدير الاستخبارات السابق الجنرال محمد مدين (توفيق)، قد شكلت تحولا لافتا في مسار السلطة الجديدة، بغرض إعادة ترتيب أوراق الجماعات النافذة وتغيير تكتيك التعاطي مع الاحتجاجات السياسية.
الأول عاد من منفاه الاختياري بإسبانيا بواسطة طائرة رئاسية، ليُبَرّأ من حكم قضائي (20 عاما سجنا نافذا) دون أن يدخل المحكمة، والثاني أخرج من السجن بعد تبرئته برفقة متهمين آخرين (سعيد بوتفليقة، لويزة حنون، الجنرال عثمان طرطاق) من تهمة الخيانة والتآمر.
وإذ عمد قايد صالح إلى إثارة خطاب الهوية والقومية من أجل تفكيك الزخم الحراكي واختراقه بتيارات حزبية وأيديولوجية، فإن ما يعرف بـ”تيار الصقور” العائد بقوة إلى مراكز القرار، أعاد استنساخ التجربة الأمنية انطلاقا من خبرته خلال العشرية الدموية، وهو المعروف عن المنتمين إليه كونهم أصحاب المقاربة الاستئصالية، وذلك من خلال ترويج روايات إعلامية عن استهداف جماعات إرهابية لأمن البلاد، وتنسيق عناصر جهادية مع ناشطين حراكيين خارج البلاد.
لكن الإفادة التي أدلى بها الإرهابي “أبوالدحداح” عبر التلفزيون الحكومي والفضائيات المحلية أدّت مفعولا عكسيا، بعدما استقبلها الشارع المناوئ للسلطة بالسخرية والتنكيت، لقناعة لديه جسّدتها شعارات مناوئة لقيادة الجيش ولجهاز الاستخبارات اتهمتهما بـ”الضلوع في العشرية الدموية”.
ورغم تغير موازين القوى في هرم السلطة، فإن الرؤية بقيت هي نفسها تجاه الحراك الشعبي، وجرى تجسيد تكامل أجنحة النظام، بعودة العديد من رموز حقبة بوتفليقة إلى واجهة المشهد، خاصة خلال التعديل الحكومي الأخير الذي أعاد وزيرين سابقين إلى طاقم الحكومة، وهما محمد علي بوغازي ودليلة بوجمعة.
ويعول الرئيس عبدالمجيد تبون على عامل الوقت والمسار السياسي لتفكيك الحراك الشعبي وقبول الشارع المناوئ بالأمر الواقع، حيث اعتبر في أكثر من تصريح أن “تعديل الحكومة وحل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، إلى جانب تدابير أخرى، ضمانات كافية لتحقيق تغيير سلس وهادئ في البلاد”.
لكن العودة المفاجئة والقوية للاحتجاجات السياسية في الذكرى الثانية للحراك الشعبي، كشفت حجم الوقت الضائع من عمر البلاد في أزمة تزداد تعقيدا، خاصة وأنها تتزامن مع أزمة اقتصادية خانقة وتداعيات وخيمة لجائحة كورونا على الجبهتين الاجتماعية والاقتصادية، تكون قد أخلطت أوراق السلطة رغم تظاهرها بالتماسك والصمود.
ويكون التحول الحاصل في شعارات وخطاب المحتجين قد أزعج السلطة كثيرا، لاسيما في شقّه المتصل بمطلب “الدولة المدنية”، و”اتهام جهاز الاستخبارات بممارسات التعذيب والاغتصاب الجنسي”، و”سقوط المافيا العسكرية”، وهو ما اعتبره وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة عمار بلحيمر “مؤامرة يديرها ناشطون بالتعاون مع جهات معادية”.
وزاد دخول المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة على خط الأزمة بعد إصدارها بيانا يدين ما وصفته بـ”ممارسات القمع والتضييق” على “ناشطين مسالمين”، ويدعو السلطة إلى “إطلاق سراح المعتقلين فورا ودون شروط”، من ارتباك السلطة التي لم يصدر عنها أي تعليق إلى حد الآن.
وبالرغم من تلويح الحكومة بمشروع قانون جديد لتجريد جزائريي المهجر من جنسيتهم بدعوى إلحاق الضرر بالبلاد، ويستهدف القانون بعض الناشطين المهاجرين في عدة مدن وعواصم أوروبية كباريس ولندن وإسطنبول ومدريد، إلا أن المخاوف من تداعيات دخول المنظمة الأممية على خط الأزمة، بدا على دوائر سياسية ومستقلة عديدة، واعتبرتها مقدمة لاستنساخ النموذج السوري، لاسيما في ظل غياب الإرادة السياسية لاحتواء الموقف الداخلي.