بوصلة جديدة لعلاقات المغرب مع دول الاتحاد الأوروبي

هناك حاجة إلى نموذج جديد يحكم علاقة الاتحاد الأوروبي مع المغرب بعيدا عن الانتقائية ودون تأثير لصراع دول الاتحاد مع روسيا أو مخاوف من اكتساح صيني لدول المنطقة عبر التكنولوجيا والتجارة.

بقطع التعامل مع سفارة برلين بالرباط، عكست علاقات المغرب مع ألمانيا التغيير في اللهجة والمضمون اللذين دأبت عليهما الدبلوماسية المغربية كسبيل لإعادة تقييم استراتيجي للعلاقات، بهدف استمرارية مصالحهما الأساسية دون التدخل في أعمال السيادة المغربية عن طريق التحكم الناعم في مسارات العناصر المشكلة للتنمية الديمقراطية وسيادة القانون والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.

الجانب الأوروبي تنبه مبكرا إلى محدد السيادة المتمثل خصوصا في عنصر الصحراء، حيث غير بوصلة تعامله مع المغرب حفاظا على المصالح المشتركة من منطلق رابح – رابح كقاعدة تسهل عملية التواصل الثنائي.

في فبراير عام 2019، وافق البرلمان الأوروبي على تعديلات لاتفاقيات الشراكة بين دول الاتحاد والمغرب حول مصائد الأسماك، لمعالجة الخلاف حول إدراج الصحراء المغربية في نطاق تلك الاتفاقات، الأمر الذي ساعد على طي صفحة الخلاف بين الطرفين، ومهد الطريق لإعلان مشترك بشأن عدد من الملفات الإستراتيجية كالأمن وإدارة الهجرة والمناخ والتجارة والتنمية.

نبقى دائما مع أعضاء الاتحاد الأوروبي ونعرج على الجار الشمالي إسبانيا، هذا البلد الذي كان يحتل الصحراء المغربية إلى غاية 1975، التاريخ الذي أنهى المغرب الاحتلال بمسيرة سلمية عكست نموذجا متقدما في التعامل مع قضايا الجغرافيا والتاريخ والسياسة.

استرجع المغرب صحراءه لكن إسبانيا دعمت من زاوية أخرى مجموعة انفصالية تسمى بوليساريو، ولازالت مؤسسات هذا البلد تقيس نبض العلاقات الثنائية من خلال هذا المتغير الذي أرادت في كثير من الأوقات الضغط من خلاله للحصول على مكتسبات وامتيازات على حساب مصالح المملكة.

لكن المغرب الذي نتحدث عنه في العشرية الأخيرة راكم عددا من المكتسبات والمواقع الجيوسياسية ونوَّع من علاقاته الدبلوماسية والتجارية والسياسية والاقتصادية، ما انعكس على نوع الخطاب الموجه إلى الجانب الإسباني بشكل خاص.

الإسبان لم يستوعبوا مطالب الرباط بترسيم الحدود المائية، ولم يستوعبوا أن يضع المغرب حدا للتهريب من مدينتي سبتة ومليلية نحو مدن المغرب. ولم يستوعب أن يقوم المغرب بتطوير ترسانته الدفاعية الأرضية والجوية والبحرية. ما يؤكد أن مدريد لا تريد جارا جنوبيا قويا بعلاقات قوية ومصالح مع عواصم دول لها وزنها الاستراتيجي كواشنطن ولندن وبكين وموسكو.

استقرت القيادة المغربية على وجهة نظر ترى أن فتح آفاق التعاون مع دول متعددة وتشبثها بالجانب الاستراتيجي في التعاون سيعطي فرصة أكبر لتقوية الموقع الإقليمي والجهوي. وما اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على صحرائه إلّا أحد تجليات تلك المقاربة المؤسسة على السيادة والمصلحة والبرغماتية والمبادئ، وهذا ما يقض مضجع دول الجوار.

كانت إسبانيا تراقب طريقة تعاطي برلين مع قرار المغرب تجميد تعاونه مع السفارة الألمانية والمؤسسات التي تشرف عليها. ويبدو أن مقاربة المؤسسة الملكية المشرفة نجحت في إيصال رسالتها إلى المؤسسات الإسبانية بالدرجة الأولى، وهي أن أي تعامل مع الرباط لا بد أن يتصف بالاحترام والندّية بوصفها شريكا تجاريا وسياسيا وأمنيا جد فعال ومهم، وأن تكبح مدريد جماح الأحزاب والشخصيات والشركات التي تشوش على مصالح المغرب الحيوية وعلى رأسها الصحراء.

لدى الاتحاد الأوروبي مصالح تجارية كبيرة في المغرب، مع استثمارات أوروبية ضخمة لاسيما في صناعة السيارات. كما يعتبر التكتل أكبر شريك اقتصادي للرباط، حيث يمثل أكثر من نصف تجارته واستثماراته، لهذا فالمصالح المتبادلة تستحق إعادة ترتيب الأوراق من طرف بعض دول الاتحاد ومنها ألمانيا وإسبانيا.

Thumbnail

ومنذ عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي أصبحت الرباط أحد أهم شركاء الاتحاد الأوروبي للمساعدة على إنجاح استراتيجية أوروبا المتعلقة بأفريقيا. فمحاربة الإرهاب في الساحل والصحراء والسيطرة على الهجرة في الجوار الجنوبي المضطرب تحديات مستمرة للأوروبيين، وهذا ما جعل المغرب يسلك طريق الدفاع عن مسألة الندية في علاقاته مع دول الاتحاد الأوروبي.

لكن، تأبى بعض المؤسسات الأوروبية إلا الاشتباك مع المغرب، من مدخل حقوق الإنسان والديمقراطية، للضغط وفي أحيان كثيرة للابتزاز السياسي والاقتصادي. ولهذا ذهب المغرب بعيدا في هذا المضمار وكرس احترام الحقوق والواجبات في كافة التراب الوطني، كما أظهر تقدما في تعزيز الإدماج السياسي وتعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية.

الممثل الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، يعرف جيدا المغرب، وقد كون فكرة شاملة على التحديات والفرص التي يجب على الاتحاد اغتنامها في التعامل مع المملكة المغربية، وقد دعا إلى علاقات أفضل ودعم أكبر من الاتحاد الأوروبي للبلاد.

وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى نموذج جديد يجب أن يحكم علاقة الاتحاد الأوروبي مع المغرب بشكل خاص بعيدا عن الانتقائية في تناول القضايا المهمة، ودون تأثير لصراع دول الاتحاد مع الاتحاد الروسي، أو خوفها من اكتساح التنين الصيني عبر التكنولوجيا والتجارة. ففي ظل الاتجاه المتزايد نحو عالم تشكله ثنائية قطبية بين الصين والولايات المتحدة، لا مصلحة لبروكسل سوى تمتين العلاقات مع الجنوب عبر سياسة تبتعد عن المعيار الاستعماري.

لذلك، ليس هناك من سبب يدعو ألمانيا كدولة لها موقعها داخل الاتحاد الأوروبي إلى القول إن أهدافها لا تتعلق بمجال استعمال القوة الناعمة للتأثير على قرار المغرب، وهذا ما جعل الرباط تنهج منطق المواجهة الباردة مع برلين لإبراز مواقف المغرب وموقعه في عالم يتزايد فيه التنافس بطريقة يؤمن مصالحه الأساسية ويزيد من مكانته العالمية. ودفع برلين إلى استدعاء سفيرة المغرب زهور العلوي، لتطويق تداعيات الأزمة، والعمل على متابعة مصلحة البلدين في إقامة علاقة مستقرة، وإن لم تكن ودية دائما، مع الرباط.

وفي صراع القوى العظمى الناشئ يتحرك المغرب لصالح تثبيت نقاط قوة مؤسساته وخططه في التعامل مع الاتحاد الأوروبي، ولتحقيق هذه الغاية، يتعين عليه اتباع مسارين للعمل في مواجهة الدول التي تناصبه العداء الخفي أو المعلن داخل الاتحاد:

الأول، تمتين منصات للحوار الثنائي تعترف ضمنيا بمستويات طبيعة الخلافات التقنية أو السياسية وسبل وآليات إدارتها والتنسيق بين دول الاتحاد الأوروبي والمملكة بخصوص عدد من القضايا في إطار من المسؤولية والمساواة والاحترام لتجنب الصعوبات التي قد تخلقها سياسة دولة معينة مثل ألمانيا أو إسبانيا أو هولندا التي تود العودة إلى سياسة استعلائية في التعامل مع المغرب.

والثاني، على بروكسل، نظرا للخلافات المحتملة بشأن الأزمات، تحديد معايير موضوعية وذات مصداقية في تقاسم المصالح مع الرباط وإيجاد طرق جديدة للتعاون والدفع باستثمارات كبيرة من الاتحاد الأوروبي في عدد من القطاعات وتحييد تضارب المصالح.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: