في لقاء شهري مع الصحافة حاول عبدالمجيد تبون أن يقنع الجزائريين بأنه رئيسهم الشرعي المنتخب، وهو يعلم أنه لا يخفى على أحد منهم أنه لم يصل إلى الرئاسة نتيجة لانتخابات حرة ونزيهة، وإنما عيّن من طرف رئيس الأركان السابق الفريق أحمد قايد صالح، إثر مسرحية انتخابية قاطعها معظم الجزائريين.
ولم تجر الرياح بما تشتهي سفن تبون، فقد رحل الرجل الذي فرَضه رئيسا أياما بعد تنصيبه. ثم أصيب بفايروس كورونا، حسب الرواية الرسمية، ما أجبره على قضاء تسعين يوما يعالج خارج الجزائر، وهو الذي صرّح قبل أيام من إصابته بأن المنظومة الصحية الجزائرية التي يرثى لحالها هي أحسن منظومة في أفريقيا والعالم العربي، مشدّدا على عبارة “أحبّ من أحبّ وكره من كره”. ثم فضح تلك المنظومة بنفسه حينما صرّح إثر عودته من ألمانيا في المرة الثانية قائلا إنه ذاهب من أجل عملية جراحية بسيطة، وكأنه نسي أن منظومته الصحية التي هي “الأفضل في المنطقة” ليس بإمكانها إجراء عملية بسيطة!
ما يثير الخوف هو مواصلة تبون إنكار مشروعية الانتفاضة الشعبية العارمة واعتبار الحراكيين أدوات في يد قوى أجنبية
في كل مرة أراد التواصل فيها مع الجزائريين يظهر تبون عدم قدرته على التحكم في الملفات التي يناقشها أو اللغة التي يستعملها، إذ يبدو مترددا غير مرتاح وكأنما اللباس الرئاسي أوسع منه. مع العلم أنه حريص على اختيار صحافيين مواربين للحديث معه يتجنبون طرح الأسئلة السياسية الحقيقية، حتى وإن حاول في لقائه الأخير دعوة صحافي من جريدة الخبر لتغطية بعض أسئلته المعقولة، فيما أصبح يعرف بمسرحية شهرية. رغم ذلك تهرّب تبون من الرد صراحة على تلك الأسئلة وبدا يحوم بعيدا عن الواقع حينما تحدث عن علاقته بقيادة الجيش. لا يمكن لجزائري واحد أن يصدق أن هذه القيادة تأتمر بأوامره، بل العكس هو الحاصل؛ الجيش هو من يأتي بالرؤساء في الجزائر، وهو من ينهي مهامهم. وقد أثار ضحك وشفقة الكثير من الجزائريين حينما قال إن “جيشنا لا يمارس السياسة”.
ما يقلق أكثر هو مبالغته في تخويف الجزائريين من التدخل الخارجي واستهداف بلدهم من طرف قوى خارجية، موجها الاتهامات إلى إسرائيل والمملكة المغربية. فلماذا ينشر هذا الرعب في نفوس الجزائريين، ألا يكفيهم تكبّد الجوع والمرض على مدى العشرات من السنين؟
في واحد من لقاءاته مع هؤلاء الصحافيين المزيفين في شهر أغسطس 2020 قال إن مداخيل الجزائر من الزارعة تقدر بـ25 مليار دولار، ولم يجرؤ أحد من الحاضرين على أن يصحّح له ذلك الخطأ. وهو رقم خيالي لم تذكره دراسة أو خبير قط. وفي خطابه الأخير يوم 18 فبراير تحدث عن “عفو رئاسي عن المعتقلين” وهو اعتراف باعتقال جزائريين بسبب آرائهم السياسية. فهل يعقل أن يعترف بأن هناك اعتقالا تحت سلطته وهو لا يملّ ولا يكلّ من الحديث عن “الجزائر الجديدة”؟
وكيف يمكن له أن يصدر عفوا رئاسيا عن معتقلين، قبل أن يحاكموا وتصدر بحقهم أحكام قضائية نهائية، وهو الذي يردد دائما أن الجزائر دولة قانون؟ والأدهى أن تبون كان قد سمح لنفسه في حلقة تلفزيونية بالحكم على أحد المعتقلين الذين أطلق سراحهم بأنه “خبارجي” بمعنى “مخبر”، عميل قوى أجنبية.
ومن الغريب أن ينفي وجود معتقلين سياسيين في الجزائر بخلاف واحد أو اثنين كانا مسجونين قبل 22 فبراير 2019. ليتحدث بعد ذلك عن مجموعة أولى أفرج عنها فاق عددها الثلاثين، واستعمال كلمة “معتقلين” للحديث عنهم والتي تحيل مباشرة إلى الاعتقال السياسي!
يشعر الجزائريون أن لا شيء تغير منذ مجيء تبون، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وبدأ بعضهم يحنّ إلى زمن الرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة، إذ لم يقدّم تبون شيئا ما عدا تعديل الدستور الذي أصدره حتى بعد أن رفضه الاستفتاء الشعبي بنسبة 80 في المئة.
يعيش الإعلام الجزائري، العمومي والخاص، في عهد الرئيس تبون أحلك أيامه على الإطلاق، فلا همّ لأغلب وسائل الإعلام غير التسبيح بحمد السلطة القائمة وتخوين المعارضين، وهو ما جعلهم مرفوضين من طرف المواطنين أينما حلوا. ولن يغفر الجزائريون لتبون عدم التزامه بوعوده الانتخابية، وعلى رأسها تلك المتعلقة بالأموال المنهوبة التي وعد باستعادتها، مؤكدا أنه يعرف أين مكانها ولكنه أصبح اليوم يتجنب الخوض في الأمر.
في خطابه يوم 18 فبراير وعد تبون الجزائريين بتعديل حكومي تلبية لرغبة الحراك، وكما كان منتظرا كان تعديلا شكليا أثبت فيه الرئيس أنه ماض في الطريق الذي رُسم له في المحافظة على النظام عبر حكومة فاشلة من مخلفات بوتفليقة، لم يعد ينتظر منها الجزائريون شيئا ولم تعد تهم سوى الأجنحة المتصارعة في السلطة.
لا يزال تبون وفيا للنظام الذي ترعرع فيه كما يظهر من اختياره للوجوه القديمة الهرمة لتولى المسؤوليات. وباتت الجزائر التي يتشكل شعبها من 75 في المئة من الشباب تحت حكم “الشيخوقراطية”، حكم الطاعنين في السن. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ألا يبلغ رئيس مجلس الأمة 90 عاما؟
لا يملك الرئيس مشروعا ولا برنامجا سياسيا ولا اقتصاديا ولا إرادة ولا خطة معقولة من أجل التعامل مع الحراك العائد إلى الشارع بقوة ابتداء من 22 فبراير، كل يوم جمعة وثلاثاء، وقد هتفت ألوف الحناجر في شوارع العاصمة ومدن جزائرية يوم 26 فبراير “ما فوطينا ما عندنا رايس”، لم ننتخب وليس لنا رئيس، و”تبون مُزوّر جابوه العسكر”.
في كل مرة أراد التواصل فيها مع الجزائريين يظهر تبون عدم قدرته على التحكم في الملفات التي يناقشها أو اللغة التي يستعملها
وما يثير الخوف هو مواصلة تبون إنكار مشروعية الانتفاضة الشعبية العارمة واعتبار الحراكيين أدوات في يد قوى أجنبية، مقسّما الحراك إلى حراك أصيل أطاح بالرئيس بوتفليقة وفتح له أبواب الرئاسة، وحراك هجين يطالب بإقامة دولة العدل والقانون.
يبدو واضحا أن أولويات تبون ليست أولويات الشعب، ففي الوقت الذي يعيش أغلب الجزائريين في وضع اقتصادي واجتماعي سيء للغاية وينذر بانفجار خطير، يتحدث عن انتخابات تشريعية وتسهيل دخول الشباب إلى المجال السياسي وغيرها من المسائل الثانوية.
لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في الأيام القادمة في الجزائر، طالما لا هدف لتبون سوى محاولة الحفاظ على النظام والبقاء في الحكم.