تصاعد منسوب العنف والتطرف في تونس إلى مستويات مقلقة خلال الفترة الأخيرة، نتيجة الخطاب المتداول بين رواد الشبكات الاجتماعية ونشطائها، ما استرعى انتباه الملاحظين الذين حذروا من أن هذا النوع من عمليات التواصل في الفضاء الافتراضي يروّج لسلوكات غير مقبولة اجتماعيا، علاوة على أنها تغذي تغلغل الفكر المتطرف والنعرات الجهوية والتمييز العنصري، فضلا عن العنف ضد المرأة.
تظهر الدلائل التي تسوقها لجنة مكافحة الإرهاب في تونس مدى تطور خطاب العنف والتطرف في الفضاء الافتراضي، حيث أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مسرحا لتبادل الشتائم، وفضاء لتفريخ الخلايا الإرهابية، وشكلا من أشكال العنف المسلط على النساء.
وحملت تصريحات رئيس اللجنة منير الكسيكسي الاثنين، بأن أكثر من 53 في المئة من الخطاب الموجود في الشبكات الاجتماعية، وخاصة موقع فيسبوك يدور حول العنف والتطرف، في طياتها قلقا من أنها ستدفع البلاد إلى منزلق أكثر خطورة، بينما لا تتحمل حدوث اضطرابات في ظل الوضع الراهن.
ويعد الفضاء الافتراضي مصدرا للاستقطاب نحو الفكر الإرهابي، وأرضية لنشر التنظيمات أفكارا متطرفة. ولم تواكب تونس إلى الآن العصر بالطريقة المطلوبة في ما يهم ذلك الفضاء، على عكس التنظيمات الإرهابية التي تأقلمت بسرعة مع المتغيرات التكنولوجية ووظفتها لصالحها.
استهداف ممنهج
لم يخف الكسيكسي في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء التونسية، الاستهداف الممنهج من نشطاء الشبكات الاجتماعية لجهات يرون أنها ضد معتقداتهم. وقال إن “الخطاب موجه بالأساس ضد المؤسسة الأمنية وضد المرأة وضد مؤسسات الدولة، ويدعو إلى النعرات الجهوية بما من شأنه أن يعمق من تفشي هذا النوع من الخطاب وتغلغل الفكر الإرهابي في
المجتمع”.
ووفق الأرقام الرسمية، فإن العمليات الإرهابية ضد المؤسسة الأمنية “خلفت إلى حد الآن 739 جريحا و164 شهيدا”، وهو رقم يرى الكسيكسي أنه “مهول بالنسبة إلى تونس”. ولذلك يؤكد على ضرورة تشديد العقوبات في جرائم التهريب، بعد أن تبين أن عمليات التهريب على علاقة وثيقة بالإرهاب، حيث يمثل التهريب خط التمويل الأول للإرهابيين.
وكانت الأجهزة الأمنية التونسية قد ضبطت ما بين عامي 2014 و2015 شاحنات محملة بكميات كبيرة من السلاح موجهة للإرهابيين المتمركزين في الجبال، كانت في الظاهر تهرب سلعا أخرى.
ووفق تقريرها، تركز اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، في استراتيجية عملها على مواجهة هذه الظاهرة، والعمل على تعزيز منظومة احترام حقوق الإنسان خاصّة من جانب المؤسّسة الأمنية، نظرا إلى أنّ المعالجة الأمنية وحدها لهذه الظاهرة دون احترام حقوق الإنسان تؤدّي إلى نتائج عكسيّة.
وتضمّ اللجنة 22 عضوا يمثّلون مختلف الوزارات والهياكل الوطنية ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة بمكافحة الإرهاب. ومن مهامها إصدار المبادئ التوجيهية الكفيلة بمكافحة الإرهاب، والمساعدة على وضع السياسات لمواجهته، بالإضافة إلى تجميع المعطيات وتحليلها قصد إعداد دراسة تشخّص تلك الظاهرة.
وقود العنف المجتمعي
يرى مراقبون ومختصون في علم الاجتماع أن العنف المجتمعي بكل أشكاله، ينعكس على مستوى خطابات الأفراد في الفضاء الافتراضي، ويغذي نشاط الجماعات الإرهابية والتنظيمات التكفيرية.
ويؤكد الدكتور في علم الاجتماع معاذ بن نصير، أن “الخطاب الافتراضي العنيف هو صورة للمجتمع التونسي، حيث أصبحنا نتحدث عن ثقافة العنف من العائلة إلى الشارع إلى المجتمع، وفي ظل الثورة التكنولوجية القائمة، هو مرآة لتواصل العنف المجتمعي”.
وقال بن نصير في تصريح لـه ، إن “من أسباب ارتفاع العنف الافتراضي، الخطابات الإقصائية والجهوية، والخطابات التقسيمية من الأحزاب السياسية (أغلب الأحزاب لديها صفحات ومواقع وتتصدى لكل من يعارض مواقفها وأراءها)”.
وأضاف “الطبقة السياسية (الرئاسة والحكومة والكتل البرلمانية) في تناحر، وهنا نتحدث عن الأتباع أو القواعد التي رفّعت من منسوب العنف”، متسائلا “كيف نربي أبناءنا اليوم في ظل منسوب العنف المتنامي، والألعاب الإلكترونية التي تسوق لهم على غرار (فري فاير) وهي تهيئ نفسيا واجتماعيا الابن لاستلهام نوع من العنف؟”.
وليس ذلك فحسب، بل لفت بن نصير الانتباه إلى الخطابات ذات النعرة الجهوية، خاصة في المجالين الرياضي والسياسي والطابع القبلي في الصفحات الافتراضية، وقال “أصبحنا في مجتمع عنيف، وهذه أرضية ملائمة لتبلور الفكر الإرهابي، وسنلحظ نسبا متنامية من الخطاب المتطرف”.
والخوف لا يأتي من الفضاء العام فقط، بل إن السجون تشكل “قنبلة موقوتة”، وهو ما أشار إليه تقرير لجنة مكافحة الإرهاب، حيث أوصى بضرورة مراجعة القانون المتعلق بنظام السجون، لضمان عدم الاستقطاب خاصّة في ظل الاكتظاظ الذي تشهده، مع إقرار آليّات لضمان عدم انسياق الذين قضوا عقوباتهم إلى هذا الطريق.
كما دعت اللجنة، التي تأسست في 2015 إلى الإسراع بتفعيل دور المركز الوطني للاستخبارات، الذي أنشئ في 2017 وغير المفعّل منذ المصادقة على قانونه، والإسراع أيضا بتنظيم العمل الاستخباراتي، خاصّة بعد حلّ جهاز أمن الدولة بعد 2011.
وفي استعراض الحلول الممكنة التي يمكن اللجوء إليها، قال بن نصير “يبقى الحل مجتمعيا ويبدأ بمكونات الدولة، والمراقبة وليس الحصار الرقمي على صفحات التواصل الاجتماعي، التي تسوق لخطاب العنف والدعوة للالتحاق ببؤر التوتر والقتال”.
دور وسائل الإعلام
بحسب بن نصير، فإن جميع مكونات المجتمع المدني مطالبة بالتكثيف من الحملات التوعوية للناشئة من خطورة التطرف، وعلى الآباء الاقتراب أكثر من أبنائهم، خصوصا وأن العلاقة بينهما باتت بالأساس مادية، فضلا عن ضرورة طرح المنابر الإعلامية لهذه المسائل”.
وتلعب وسائل الإعلام دورا مهما في طرح مثل هذه المسائل الخطيرة على حياة الأفراد أو المجتمع بشكل عام، وتناولها بالشرح والتفصيل واقتراح الحلول الممكنة لمعالجتها ثم تجاوزها تدريجيا.
ومع أن هشام السنوسي عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، رأى خلال تصريح لـ”العرب”، أن الهيئة ليست مسؤولة على الفضاء الافتراضي، إلا أنه أكد أن “هناك بيئة مناسبة تشجع على تنامي العنف”. وفسر ذلك بالقول إن “العلاقات بين السلطات، ونقاشات البرلمان، وكل ما يهم الشأن العام، يشجع على العنف.. هناك خطاب عنيف وليس عقلانيا”.
وأكد السنوسي على “ضرورة طرح هذه المسائل في المنابر الإعلامية”، مستدركا “ما العمل، إذا وجدنا من يمثلون السياسة يمارسون العنف في العالم الافتراضي”.
وتابع “رأينا في مسيرة حركة النهضة السبت الماضي، تحرشا بالصحافيات وعنفا لفظيا وماديا، لا بد من الخروج بحلول للأزمة السياسية أولا، وأغلب من يشتمون في الشبكات هم يشتغلون في الأحزاب، ومن يسمون بالذباب الأزرق يتقاضون أجورا من الأحزاب”.
عنف ضد المرأة
فضلا عن التناحر السياسي، واستقطاب الشبكات الإرهابية والتكفيرية للشباب خصوصا، يوجد العنف الرقمي المسلط على النساء. وأفادت يسرى فراوس رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات ، بأن “وسائل التواصل الاجتماعي اليوم فضاء لنشر خطاب الكراهية ضد النساء وتحفيز لتعنيفهن”.
وعادت فراوس إلى فترة الحجر الصحي الشامل الأولى في تونس، حينما بدأت صفحات تنشر رسالة مفادها أن مراكز الأمن والمحاكم مغلقة، والظرف مناسب لتعنيف النساء. وقالت إن “كل الدراسات التي أنجزت في هذا الشأن تثبت ارتفاع الظاهرة”.
وأضافت “هناك تحقير ودونية للنساء، ومواقع التواصل الاجتماعي توحي بعدم وجود ضوابط على الفضاء تنظم الرسائل وكيفية توزيعها بين الناس، نحن في مجتمع صغير ويكفي أن تكون وراء شاشة كمبيوتر أو هاتف وتستخدم اسما مستعارا لممارسة العنف”.
ويبدو أن هناك قصورا من الناحية القانونية، فوفق فراوس فإن لتونس ترسانة من القوانين تحمي المرأة لكن “القانون عدد 58 المتعلق بالعنف ضد المرأة لم يتطرق للعنف الرقمي”.
الفضاء الافتراضي يعد مصدرا للاستقطاب نحو الفكر الإرهابي، وأرضية لنشر التنظيمات أفكارا متطرفة
وساهم المشهد السياسي المتذبذب بكل مكوناته في إنتاج خطاب اتصالي عنيف، وروجت مؤسسات السلطة التي تحكمها الصراعات والمناكفات لخطاب الكراهية والتفرقة، وهو ما انعكس على شبكات الفضاء الافتراضي.
وتؤكد النائب بالبرلمان سهير العسكري ، “أن من يشاهد مباشرة في التلفزيون الجلسات العامة للبرلمان، وخاصة العنف اللفظي بين الكتل البرلمانية على غرار (كتلة ائتلاف الكرامة)، من الطبيعي جدا أن تنعكس على شبكات التواصل”.
وأضافت “العنف اللفظي تحول إلى عنف جسدي (مثل الذي سلط على كتلة التيار الديمقراطي)، فضلا عن تلكؤ رئاسة البرلمان في إصدار بيان مندد، كل هذا سيتحول إلى صفحات الفيسبوك”. واستطردت “هناك صفحات مشبوهة تبث الفوضى وتزيد من تعميق هذا العنف والتفرقة”.