حافظ الرئيس الجزائري على المسافة المعهودة بين السلطة والشارع بشكل يمدد عمر الأزمة السياسية المتجددة في البلاد منذ الثاني والعشرين من الشهر المنقضي، إذ لم يبد في تصريحه لوسائل إعلام محلية أي نية لتقديم تنازلات في الأفق أو رغبة في التقارب مع الشارع المشتعل.
وأبعد الرئيس عبدالمجيد تبون في التصريح الذي أدلى به لوسائل إعلام محلية ليل الاثنين أي خيار آخر لتسوية الأزمة السياسية المتجددة في بلاده غير الذهاب إلى الانتخابات التشريعية والانخراط في المسار الذي حددته السلطة لتحقيق ما تصفه بـ”التغيير الشامل في البلاد”.
ويبدو أن الرجل الذي ظهر لأول مرة للرأي العام بعد عودته من رحلته العلاجية الثانية من ألمانيا غير مهتم بالأصوات التي ارتفعت في الآونة الأخيرة داعية إلى فتح حوار سياسي شامل في البلاد، والقيام بإجراءات تهدئة وانفتاح قبل الذهاب الى أي استحقاق انتخابي، كما جاء على لسان قيادتي كل من جبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال المعارضين.
وقد حاول تبون إبراز عدم انزعاج السلطة من تجدد الاحتجاجات السياسية في البلاد خلال الأسبوعين الأخيرين، حيث استعاد الحراك الشعبي ميدانه وذهب إلى ترديد شعارات أكثر راديكالية مسّت قيادة المؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات، وهو ما أعطى الانطباع بأن القبضة الحديدية بين الطرفين تسير إلى المزيد من الشدة والاستقطاب.
وحمّل الرئيس الجزائري مسؤولية تجدد الاحتجاجات السياسية في بلاده إلى جهات خارجية وداخلية توظف الوسائط التكنولوجية في تجييش وتعبئة الشارع ضد السلطة العمومية في إطار ما يتفق على تسميته داخل السلطة بـ”نظرية المؤامرة”، وهو الخطاب الذي تردد خلال العامين الماضيين بما فيهما الحقبة التي كان فيها الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة على رأس الدولة.
ووصفت قيادة الجيش حينها المحتجين بـ”المغرر بهم” و”الأيادي العميلة للخارج” و”التهديدات المستهدفة لأمن واستقرار البلاد”، قبل أن يتم الانقلاب على السلطة السياسية وتنحية بوتفليقة والزج برموز مرحلته في السجون تحت مسمى “العصابة”.
وذكر عبدالمجيد تبون في هذا الشأن بأن “ما يجري في الشارع هو ثورة مضادة يجري التخطيط لها وتمويلها من طرف العصابة المتواجدة في السجون، وأن الدولة ستقف بالمرصاد لكل من يتجرأ على المساس بأمن واستقرار البلاد”.
وأضاف “السلطة ماضية في مسار التغيير السياسي في البلاد، وأنها عاكفة على تحقيق مطالب الحراك المبارك والأصلي والأصيل، وأن من يملك رؤية مغايرة عليه بالذهاب إلى الانتخابات التشريعية المبكرة لعرض بضاعته السياسية على الشعب”.
وحملت مفردات الرئيس الجزائري تصنيفات جديدة للحراك الشعبي من خلال التركيز على “المبارك والأصلي والأصيل”، في تلميح لعزل الموجة الاحتجاجية الجديدة عن الحراك الشعبي، وتضمينها أفكارا وتصورات وصفها بـ”المفبركة” في مخابر أجنبية، كما هو الشأن بالنسبة إلى “الدولة المدنية وليست عسكرية”.
ورغم الانطباع الذي حاول فريق الإعلام الرئاسي إضفاءه على تصريحات رئيس الدولة من خلال السماح بمنسوب ملحوظ من الأسئلة الجريئة، إلا أن الحرج بدا جليا على ضيفي تبون، ولم يتم توظيف الأسئلة الصحافية في الرد على الملفات والانشغالات الحقيقية المطروحة، ففيما كان يجري الإعداد للمقابلة الصحافية، كان الوضع الاجتماعي في مدينة ورقلة (800 كيلومتر جنوب العاصمة) مشتعلا بسبب غضب واحتجاج السكان على حكم قضائي بسبع سنوات سجنا نافذة صدر في حق الناشط المعارض عامر قراش المتابع بتهم الإشادة بالإرهاب والإساءة لرئيس الجمهورية والتحريض على التجمهر.
ولا زال الوضع الاجتماعي يشوبه الترقب والحذر في مدينة ورقلة التي تحمل بعدا إستراتيجيا في البلاد، فهي إلى جانب كونها محاذية للحدود الليبية، تتضمن أهم الآبار النفطية والغازية وتتواجد فيها العديد من الشركات النفطية العالمية.
وفي صبيحة اليوم الموالي خرج المئات من الطلبة الجامعيين في العاصمة وفي عدد من المدن الجامعية للتظاهر في الشوارع وترديد شعارات سياسية مناوئة للسلطة، معبرين عن تمسكهم بالتغيير الشامل وبرحيل النظام القائم، وهو ما يجعل مفعول كلام رئيس الدولة دون أي جدوى في طريق تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ويرى مراقبون أن تبون لم يوفّق في رفع اللبس عن التناغم المسجل بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مقابل تناقض الخطاب المتداول مع القرارات الميدانية، ففيما أبدى ماكرون تضامنه المطلق مع تبون في محنته الصحية ووقوفه إلى جانبه في تحقيق أجندته السياسية، جاء مضمون تقرير تسوية ملف الذاكرة الذي أعده المؤرخ بنيامين ستورا وتحرك فرنسا في الدول الجنوبية للجزائر مخيبا للآمال وغير مراع للمصالح الجزائرية.
وبينما أشاد تبون مجددا بنظيره الفرنسي وأرجع تذبذب المواقف الفرنسية إلى ما أسماه بـ”اللوبيات” النافذة داخل البلاد لتبرير موقف نظيره، فإنه أكد بأن “بلاده لن ترسل جيشها إلى منطقة الساحل حتى لو صار ذلك ممكنا دستوريا” في رده على تصريح ماكرون كون “الجزائر التزمت بإرسال جيشها الى هناك” وذلك بمناسبة انعقاد قمة إنجامينا لدول منطقة الساحل والصحراء.