أحيت المظاهرات العنيفة التي اندلعت في إقليم كتالونيا الإسباني المطالب الانفصالية للإقليم الذي صوت مواطنوه في 2017 لصالح الانفصال عن مدريد. ورغم أن الاحتجاجات انطلقت بسبب سجن مغنّي راب، إلا أن مراقبين يرون فيها بداية تمرد جديد عن السلطات المركزية.
تعكس التظاهرات المتصاعدة في إسبانيا على خلفية سجن مغنّي راب كتالوني أدين بإهانة المؤسسة الملكية وقوات الأمن في ظاهرها دفاعا عن حرية التعبير في البلاد، لكنها تحمل في باطنها عودة قضية انفصال كتالونيا عن مدريد إلى الواجهة عقب فوز الانفصاليين بأغلبية برلمانية في انتخابات الأحد المحلية.
وأكد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الجمعة في أول بيان علني له منذ بدء الاحتجاجات العنيفة الثلاثاء أن الحكومة الإسبانية “ستتصدى لكل أشكال العنف”. وأضاف في بيان مقتضب عند بدء خطاب في إكستريمادورا (غرب) منهيا الصمت الذي واجه بسببه انتقادات شديدة من المعارضة اليمينية “الديمقراطية لا تبرر العنف أبدا”.
واندلعت التظاهرات العنيفة أولا ليل الثلاثاء بعدما أوقفت الشرطة بابلو هاسل (32 عاما) الذي كان يتحصن في جامعة في كتالونيا لتجنب اقتياده إلى السجن، بعدما أصدرت إحدى المحاكم حكما بالسجن تسعة أشهر في حقه بسبب أداء أغان قالت السلطات إنها تتضمن إهانات للنظام الملكي.
وأوقف نحو مئة شخص منذ بدء الاحتجاجات من بينهم 16 ليلة الخميس في برشلونة وفالنسيا (شرق)، فيما أصيب العشرات من الأشخاص بجروح بحسب السلطات المحلية من بينهم شابة فقدت عينها ليل الثلاثاء في برشلونة إثر إصابتها بعيار مطاط أطلقته الشرطة.
وأصيب الكثير من عناصر الشرطة بجروح بعدما عمد متظاهرون إلى رشقهم بالحجارة. كذلك أضرم المتظاهرون النار في حاويات قمامة وفي حواجز نشرتها الشرطة وأشياء أخرى في الشوارع.
ورغم أن التظاهرات بدأت في كتالونيا التي يتحدر منها المغني، إلا أنها امتدت إلى مدن أخرى من بينها مدريد حيث يتوقع تنظيم تظاهرة السبت. وتشير ما قالت مدريد إنها إهانة للنظام الملكي إلى النزعة الانفصالية التاريخية المتجذرة في الإقليم والتي لم تستطع مدريد تطويقها اجتماعيا وسياسيا منذ عقود وتستعمل العصا الغليظة لقمع هذه النزعات.
وبعدما نظموا في الأول من أكتوبر 2017 استفتاء حول تقرير المصير منعه القضاء الإسباني، أعلن الانفصاليون في 27 أكتوبر من العام ذاته “جمهورية كتالونيا المستقلة” ما أثار أسوأ أزمة سياسية تشهدها إسبانيا منذ انتهاء حقبة حكم الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو.
وردا على ذلك أقالت حكومة مدريد التي كان يقودها المحافظ ماريانو راخوي الذي دعي للإدلاء بإفادته في المحاكمة السلطة التنفيذية بقيادة كارلس بوجديمون وعُلّق الحكم الذاتي لهذه المنطقة الغنية في شمال شرق إسبانيا.
وتصر السلطات في كتالونيا على إجراء استفتاء للاستقلال عن إسبانيا، في وقت ترفض مدريد ذلك بسبب الأهمية الاقتصادية والإستراتيجية للإقليم وبسبب مخاوفها من تمدد المطالبة بالانفصال إلى أقاليم أخرى.
وأسوأ ما تخشاه حكومة مدريد هو أن انفصال كتالونيا قد يكون بداية تفتت الدولة الإسبانية عبر فتح المجال لاستفتاءات قادمة في أقاليم أخرى أيضًا، خاصة إقليم الباسك الذي خاض صراعًا مسلحًا مع سلطة مدريد من أجل الاستقلال بواسطة منظمة إيتا الباسكية. ومن أهم الأسباب التي تدفع الحكومة الإسبانية إلى التمسك بكتالونيا ورفض استفتاء الاستقلال أهمية الإقليم الاقتصادية.
وتحقيق كتالونيا لحلم الانفصال يعني أن إسبانيا ستخسر 8 في المئة من إجمالي مساحتها وما يقارب 15 في المئة من مواردها البشرية. أما التكلفة الأكبر ستكون على مستوى الاقتصاد حيث ستفقد إسبانيا حوالي 19 في المئة من إجمالي ناتجها القومي و26 في المئة من صادراتها الإجمالية، إذ تُصدر كتالونيا لوحدها 45 في المئة من المنتوجات التكنولوجية المصنعة بإسبانيا، وهو ما سيرتد بالتأكيد سلبًا على الاقتصاد الإسباني.
وبعد الاستفتاء على الانفصال في 2017 والذي ألغته المحكمة الدستورية في مدريد، راهنت حكومة رئيس الوزراء الإسباني سانشيز على الانتخابات المحلية في كتالونيا التي جرت الأحد الماضي للتخلص من سيطرة الانفصاليين على برلمان الإقليم، إلا أن ذلك لم يحدث.
وعزّزت الأحزاب الانفصالية الكتالونية غالبيتها في البرلمان الإقليمي ما يمكّنها من الاحتفاظ بالسلطة في كتالونيا إثر انتخابات طغت عليها جائحة كورونا.
نحو مئة شخص أوقفوا منذ بدء الاحتجاجات من بينهم 16 ليلة الخميس في برشلونة وفالنسيا (شرق)، فيما أصيب العشرات من الأشخاص بجروح
وبعد ثلاثة أعوام ونيّف على محاولة الانفصال عن إسبانيا لم تحل الخلافات بين الأحزاب الانفصالية والاستياء في صفوف قواعدها الشعبية دون تعزيز غالبيتها من 47.5 في المئة في انتخابات عام 2017 إلى أكثر من 50 في المئة في انتخابات الأحد.
ومع نيل اليسار الجمهوري 33 مقعداً، وحزب معاً من أجل كتالونيا الذي يتزعّمه رئيس الإقليم بوجديمون 32 مقعداً، وحزب الترشيح من أجل الوحدة الشعبية تسعة مقاعد، عزّزت الأحزاب الانفصالية غالبيتها البرلمانية من 70 مقعداً في الانتخابات الماضية إلى 74 مقعداً. لكن سيتعيّن عليها تخطّي خلافاتها لتشكيل ائتلاف حاكم.
ويحكم المنطقة حالياً ائتلاف بين اليسار الجمهوري المنادي بالانفصال عن مدريد ومعاً من أجل كتالونيا المعتدل والداعم لسانشيز في البرلمان الإسباني.