لا خيار ثالث.. فإما أن تتوقف حملات القدح والشتم بين البلدين المغاربيين نهائيا، وإما أن تبقى وباستمرار حجر عثرة أمام أي تقارب محتمل بينهما؟ وبقدر ما يكون اختلاف هذه الدولة المغاربية عن تلك، في الحدود العادية للخلاف معقولا ومقبولا، بقدر ما أنه ومع كل تصاعد لوتيرة الحملات الإعلامية بين الدولتين المعنيتين، أي المغرب والجزائر وخروجها في مناسبات عن بعض الضوابط، فإن ذلك يكون ناقوس إنذار بأن الأمور قد تأخذ منحى تصعيديا، لا مناص معه من مواصلة النظر للمسألة باستخفاف، أو تجاهل تداعياتها المرتقبة، لا عليهما فحسب، بل حتى على باقي دول المنطقة أيضا.
والمؤسف حقا أنه بدلا من أن يخطط المغاربيون اليوم، أو يفكروا بعزم وجد في أنجع السبل التي تحقق وحدتهم، صار سقف طموحاتهم، هو التطلع لأن يقدم المشرفون على تلك الحملات التحريضية، ولو على إقرار هدنة قصيرة ومحدودة تلتقط فيها الأنفاس، وتُراجع أثناءها الحسابات، ويحاول فيها أولو العزم والبصيرة تدارك بعض ما فات الشعوب من فرص مهدورة، لردم الفجوة بين القطرين. والمثال الأخير الذي قد يؤكد تلك الحقيقة المرة هو ما أثاره البرنامج التلفزيوني «ويكاند ستوري» الذي بث مساء الجمعة الماضي على قناة «الشروق» الجزائرية من ردود غاضبة حتى في أوساط الجزائريين أنفسهم.
ولسائل أن يسأل ماذا كان الهدف الحقيقي من وراء ذلك البرنامج بالضبط؟ هل تسلية الجزائريين والترفيه عنهم في مثل هذا الظرف، ولو بأسلوب صادم ومبتذل ومستفز لمشاعر جيرانهم، كما رآه قسم واسع من هؤلاء على الأقل؟ أم إلهاؤهم وإبعادهم، ولو إلى حين عن بعض قضاياهم ومشاكلهم وأزماتهم، والاستعاضة عن ذلك بتوجيه رسائل سياسية استفزازية وعدائية إلى الشقيقة المغربية؟ في الحالتين فإن النتيجة كانت زيادة منسوب التوتر في العلاقة المأزومة أصلا بين المغاربة والجزائريين. لكن السؤال هو، من يتحمل المسؤولية عن ذلك؟ وهل كان اختيار مقدم البرنامج إظهار العاهل المغربي على شكل دمية كرتونية، يُجري معها حوارا افتراضيا حول العلاقات المغربية الإسرائيلية عملا مخططا، تم بعلم وتوجيه وإرادة السلطات الجزائرية؟ أم أنه لم يكن سوى اجتهاد فردي لا علاقة له بها لا من قريب ولا من بعيد؟ في ظرف آخر كان سينظر لأي تهوين لما جرى، أو حتى نفي وإنكار لوجود نوايا أو أغراض مبيتة من وراء العمل التلفزيوني المقدم، أو أي تبرير لما قد يكون انحرافا حصل فيه من قبيل القول، إنه تجاوز أو مس غير مقبول، بما قد يعتبره الجار واحدا من رموزه السيادية، على أنه في النهاية مجرد انفلات غير مخطط أو مقصود، سيغلق القوس تماما وبسهولة عند ذلك الحد، لكن الجميع يعلم جيدا مقدار الحساسية المفرطة في البلدين، لأي تصريح أو تلميح قد يفهم منه، من هذا الطرف أو ذاك، أنه نوع من التهجم أو التطاول يخرج عن خانة الانتقاد المجرد لموقف، أو الرفض المشروع لتوجه سياسي ما. وهنا لم يكن أحد ليعترض على القناة الجزائرية، أو على أي وسيلة إعلام أخرى، أو يلومها إن هي عبّرت بشكل غير الذي اختارته عن رفضها، أو معارضتها لبعض سياسات الجارة الغربية، من قبيل خيار التطبيع مع الإسرائيليين، الذي لا يبدو حتى داخل المغرب نفسه، أن هناك منعا أو تعسفا على من يرفضونه. غير أن الأسلوب بشكل خاص هو ما جعل كثيرا من المغاربة ينساقون وراء نظرية المؤامرة التي تستهدفهم، ويرون أن الأمر لم يحصل على الإطلاق بشكل عفوي، أو اعتباطي، بل يطالبون حكومتهم بأن ترد بقوة على ما اعتبروه إهانة وطنية، لا تمس فقط بشخص ملكهم، بل ببلدهم كله، ذلك فتح الباب لشتى التأويلات فأخبارنا الجالية فسرت الأمر على أنه «يأتي في سياق حملة ممنهجة يقودها الإعلام الرسمي الجزائري، منذ نجاح المغرب في تحرير معبر الكركرات الحدودي، وطرد جبهة البوليساريو» قبل أن يضيف بأن «حدة الحملة العدائية زادت بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء».
مع كل تصاعد لوتيرة الحملات الإعلامية بينن المغرب والجزائر فإن ذلك يكون ناقوس إنذار بأن الأمور قد تأخذ منحى تصعيديا
ولكن لم تكن تلك المرة الأولى التي يشعل فيها إعلاميون من البلدين من حيث يدرون، أو لا يدرون، فتيل العداء بين الجارتين، رغم كل ما ظل يتردد بين الحين والآخر من شعارات الأخوة الراسخة والعميقة بين الشعبين. والمؤلم حقا في ما يحصل منذ سنوات بين المغرب والجزائر هو ليس فقط أن الحدود البرية بينهما لا تزال ومنذ أكثر من عقدين من الزمن مغلقة بالكامل، وأنهما لا يزالان رغم تبادل التمثيل الدبلوماسي يعيشان في شبه قطيعة، جعلت أي تفكير في تطوير وتجسيم الروابط الإنسانية والحضارية التي تجمعهما، أو تحقيق تكامل إقليمي ضمن اتحاد مغاربي، يبدو صعبا جدا، وربما غير واقعي بالمرة، بل في ما سيرسخ مستقبلا في أذهان الأجيال الجديدة، من صور ومشاهد وانطباعات حول طبيعة تلك العلاقة، خصوصا حول اختلاف وتباين لا مواقف القيادتين، بل حتى الشعبين وعدائهما لبعضهما بعضا. لكن السؤال الكبير هو من باستطاعته أن يوقف الآن هذا الفيضان الإعلامي، ومن يمكنه أن يعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي أو يهدئ على الأقل من حدة الأجواء بين الشقيقين المغاربيين؟
لقد تبادل ملك المغرب محمد السادس ورئيس الجزائر عبد المجيد تبون عبارات الود أكثر من مرة، وكان مرض الأخير نهاية العام الماضي مناسبة أعرب خلالها العاهل المغربي لنظيره الجزائري، بعد ظهوره الإعلامي الأول، في أعقاب الإعلان عن تماثله للشفاء عن عميق ارتياحه لتحسن صحته، ودعوته الله العلي القدير أن يعجل بشفائه وباستعادته كامل عافيته، وبأن يرزقه موفور الصحة ويمتعه بطول العمر، مثلما جاء في البرقية التي نشرتها وكالة الأنباء الرسمية المغربية. ومن جانبه فإن الرئيس الجزائري شدّد في حوار تلفزيوني الصيف الماضي على أنه «ليس لدينا اي مشكل مع إخوتنا المغاربة، ويبدو أنهم هم من لديهم مشكلة معنا» مؤكدا أنه «إذا كانت هناك مبادرة من الأخوة المغاربة لتجاوز التوتر سنرحب بها بالتأكيد». وبغض النظر عن حجم الخلافات التي تجعل كل واحد من القائدين ينتظر من الآخر أن يقدم هو على الخطوة الأولى نحو الصلح، فلا يبدو أنهما يرغبان بالتصعيد أو يرتاحان للوضع الذي وصلته علاقة بلديهما. ولأجل ذلك فإنه سيكون من أضعف الإيمان أن يعطيا الأوامر بوقف تلك الحملات على الفور. ومن الواضح أن امتناع المغرب حتى الآن عن القيام بأي رد فعل شعبوي، من قبيل ما دعا له البعض من سحب السفير، يجعل الأمل قائما في هدنة إعلامية حقيقية بين البلدين، لكن إن أمكن الوصول لتلك الهدنة وثبتت، فهل ستتوقف الأمور حينها عند ذلك الحد؟ ما يأمله المغاربيون جميعا أن يكون ذلك فاتحة لصفحة جديدة بين الشقيقين، خالية تماما من كل مظاهر العداء والشحناء المعهودة والممجوجة باستمرار.