وجدت السلطات الجزائرية نفسها مضطرة للانحناء لضرورات الواقع في ظل ضغوط شديدة من عديد الأطراف، التي تطالب بضرورة تعديل التشريعات على نحو يضمن أكثر شفافية في ما يخص تمويل حملات الأحزاب من أجل إنقاذ الاستحقاقات الانتخابية القادمة من تدخل المال الفاسد، حيث يرى شق من المتابعين أن تنفيذه يتوقف على التزام كل الفاعلين في المشهد السياسي به وخاصة من طرف أعلى هرم السلطة.
توظّف الأنظمة السياسية في العادة الانتخابات لخلق توازنات جديدة أو الحفاظ على التوازنات القديمة، وهو ما حصل في الجزائر طيلة العقدين الماضيين، اللذين تولى فيهما الرئيس الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة السلطة قبل أن يطيح به حراك شعبي انتفض على الطبقة الحاكمة وأسقطها.
وتجلت سيطرة النظام السابق على مفاصل الدولة من خلال المصادقة على قوانين في استحقاقات انتخابية متتالية على الرغم من رفضه بشدة من أحزاب المعارضة، حيث قام المشرّع الجزائري بمعيّة السلطات المركزية بالتضييق أكثر ما يمكن في النظام الانتخابي للاستحقاقات التي جرت في العام 2016، ما طرح حينها الشكوك بشأن مصداقيتها.
ورغم أن تلك المسألة كانت مثار امتعاض من المعارضة، إلا أنه لم يكن أحد ليتجرأ على طرح مسألة تمويل الحملات الانتخابية وتوظيفها لكسب الأصوات، لكن يبدو أن السلطات الجديدة في عهد عبدالمجيد تبون فتحت هذا الملف لأنها ترى أنه من الضروري القطع مع الماضي والاستجابة لمطالب الجزائريين بتحقيق المساواة والحرية في التصويت دون التأثر بأي طرف.
فصل المال عن السياسة
يثير اتجاه الجزائر نحو اعتماد نظام انتخابي جديد بداية من الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، والذي تأمل من خلاله في قطع الطريق أمام المال الفاسد وشراء الذمم، الكثير من النقاشات والجدل، كون النظام، الذي اقترحته لجنة الخبراء المكلفة بتعديل قانون 2016، والتي تضم مجلس الدولة والمحكمة العليا ومجلس المحاسبة والهيئة العليا لمحاربة الفساد، يقوم على إلغاء التصويت المغلق على القائمة الانتخابية، وتعويضه بنظام الاقتراع النسبي على القائمة المفتوحة.
ومن شأن ذلك النظام أن يُسقط القيمة السياسية لـ”متصدر القائمة”، الذي كانت تُصرف لنيله داخل الأحزاب الكبيرة أموالا معتبرة، لضمان فوز المتصدر، وربما من يليه بالقائمة في الانتخابات. ولا توجد تواريخ معلنة لانتخابات البرلمان والمجالس المحلية، لكن ثمة توقعات بإجرائها بين مايو ويونيو المقبلين، بعد تعديل قانون الانتخاب وانقضاء شهر رمضان.
ولا يمكن للناخبين في الوقت الحالي التصويت لمرشحين منفردين داخل القائمة، بل يصوتون لقائمة مغلقة، على أن يتم توزيع ما تحصل عليه من مقاعد بالترتيب بداية من صدارة القائمة، أي كلما تقدم ترتيب المرشح في القائمة، زادت حظوظه في الفوز.
وقبل أيام، وزعت الرئاسة الجزائرية مسودة القانون المُعدل على الأحزاب السياسية لتقديم ردودها إلى لجنة الخبراء، بقيادة أحمد لعرابة. وتقول السلطات إنها تحاول وقف وصول “المال الفاسد” إلى المجالس المنتخبة، من خلال تمكين الناخبين من اختيار مرشح أو مرشحين ضمن القائمة الواحدة، عبر التأشير على الأسماء، بدلا عن التصويت على القائمة ككل.
وحددت المسودة سقف نفقات المرشح للاستحقاقات الرئاسية، بحيث ألا يتجاوز 100 مليون دينار (نحو 753 ألف دولار)، و1.5 مليون دينار عن كل مرشح في الانتخابات التشريعية.
وشدد الرئيس الجزائري، عبدالمجيد تبون، في مناسبات عديدة، على ضرورة فصل المال عن السياسة. وقال ، في أحد حواراته لوسائل الإعلام المحلية، إن “شراء المراتب الأولى في القوائم الانتخابية أوجد مجالس منتخبة ضعيفة، وحال دون وصول الشباب المتخرج من الجامعات إلى هذه المجالس، لأنه لا يمتلك الأموال اللازمة”.
وخلال عهد نظام عبدالعزيز بوتفليقة، كانت ثمة شواهد على شراء الأصوات. ففي 2017، تفجرت في الانتخابات البرلمانية قضية شراء المرتبتين الأولى والثانية في القوائم الانتخابية للأحزاب الكبرى. وفي سبتمبر الماضي، عالج القضاء قضية تتعلق بشراء المراتب في قوائم تلك الانتخابات، داخل حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم آنذاك.
وكشف البرلماني المثير للجدل، بهاء الدين طليبة، أمام القاضي، أن قوائم الحزب بيعت بنحو سبعة ملايين دينار (545 ألف دولار) للمرشح الواحد. وقضت المحكمة بالسجن 8 سنوات بحق طليبة، بجانب أحكام أخرى متفاوتة بالسجن بحق أبناء الأمين العام الأسبق للحزب، جمال ولد عباس، لضلوعهم في القضية نفسها.
وخلفت اعترافات طليبة أمام القضاء، سخطا شعبيا واسعا على البرلمان الحالي، وألحقت أضرارا جسيمة بمصداقيته وأهليته للتشريع والمصادقة على القوانين.
ولكن أعضاء لجنة الخبراء، دافعوا خلال مؤتمر صحافي في أواخر الشهر الماضي، عن تبني نظام التصويت على القائمة المفتوحة. وقال نصرالدين بن طيفور، أحد أعضاء اللجنة، إن إلغاء متصدر القائمة الانتخابية جاء بعدما أثبتت التجارب منذ 1997 (أول انتخابات برلمانية)، فشل القوانين في منع تسلل المال الفاسد إلى المجالس النيابية.
واعتبر بشير يلس شاوش، الذي كان أحد أعضاء لجنة الخبراء المكلفين بصياغة المقترحات الخاصة بمراجعة الدستور بأن اعتماد النمط الجديد، الذي
يمنح الناخب حق التصويت لمن يراه مناسبا داخل القائمة الواحدة، هو “حتمية وليس خيارا”، من أجل التصدي للمال الفاسد في العمليات الانتخابية.
ووضع تبون تعديل قانون الانتخابات كثاني أولوياته السياسية بعد تعديل الدستور، بعد توليه الرئاسة في ديسمبر 2019 لإعادة تشكيل مجالس نيابية تتمتع بالشرعية المعنوية والقانونية، لتسند لها مناقشة وتبني الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية المراد إنجازها ضمن مشروعه “الجزائر الجديدة”.
الإرادة الحزبية ضرورية
يعتبر مراقبون أن تحزّب النشاط السياسي في الجزائر مرّ بمراحل عديدة لم تساهم كثيرا في نحت معالم نظام حزبي متماسك، ففترة السرية التي عاشتها الحركات الحزبية في الجزائر بين عامي 1962 و1988 تظهر سر ضعفها واستفادة النظام السياسي من ذلك الضعف، خاصة وأن هذه الأحزاب غير قادرة على التأثير في مخرجات النظام السياسي.
ولكن نذير عميرش، أستاذ القانون الدستوري، في جامعة قسنطينة، يعتقد أن النمط الانتخابي المقترح سيقضي على “رؤوس القوائم”، وبالتالي يقضي مبدئيا على المال الفاسد، الذي يوظف عادة في شرائها.
وقال إن “النمط الانتخابي المعمول به في الوقت الحالي يجعل من فوز متصدر القائمة ووصيفه مضمونا بالنسبة للأحزاب الكبرى (أحزاب الموالاة) فالناس يصوتون على القائمة، وما تحصله من مقاعد يوزع على شاغليها بالترتيب”، مشيرا إلى أن التصويت على المرشحين، داخل القائمة الواحدة، سواء كانت حزبية أو مستقلة، يُبعد التهافت على شراء المراتب داخل القوائم.
ومع ذلك، حذر من أن هذا النظام المقترح لن يكون “حصنا منيعا في وجه المال الفاسد، إذا لم تتوفر الإرادة السياسية للأحزاب”. وأوضح أن شراء المرتبة الأولى قد يتحول إلى شراء الختم الرسمي للحزب لوضعه على قائمة من أجل شخص معين، وأن تُصرف كل الأموال للتعبئة من أجل مرشح معين دون سواه.
السلطات تحاول وقف وصول “المال الفاسد” إلى المجالس المنتخبة، من خلال تمكين الناخبين من اختيار مرشح أو مرشحين ضمن القائمة الواحدة
وثمة من يرى من المتابعين أن السلطة أثبتت أن لديها الإرادة لمحاربة المال الفاسد وتشكيل مجالس نيابية نظيفه، ولكن ستقع باقي المهمة على الأحزاب.
ويرى مصطفى بلعريبي، ناشط سياسي، أن إلغاء متصدر القائمة قد يُعوض بصراع أفقي بين المترشحين داخل الحزب الواحد. وأوضح أن قيادات الأحزاب “قد تُفسد جودة النص القانوني بإبعاد الأشخاص ذوي الشعبية والكفاءة من القائمة النهائية لتصمم على مقاس مرشحين معينين”.
ولدى بلعريبي اعتقاد راسخ بأنه ليس من صالح أي حزب الاستمرار في الممارسات السابقة، فالقوائم المستقلة ووجود آليات الإدارة النزيهة للعملية الانتخابية، من العوامل التي ستقضي على الرداءة السياسية في القوائم الانتخابية.