كلميم: باب الصحراء وهمزة الوصل بين شمال المغرب والعمق الأفريقي

سعيد المرابط

بين تناقض الجنوب والشمال، تحديدًا بين اليباس والخضرة، تقع كلميم، أو “كلَيْمِمْ” حسب النطق الحساني، وقديمًا قيل إن هذه المدينة تعتبر باب الصحراء وبداية أرض “البيظان”. هي نقطة فاصلة بين جنوب صحراوي قاحل وشمال مفعم بخصوبة الطبيعة.

في هذه المدينة تعايشت كل الأجناس والأعراق، بهوياتها المختلفة؛ بعربها الأعراب والعاربة، وأمازيغها الأقحاح والهجائن؛ مشكّلةً هويةً “وادنونيةً” (نسبة إلى وادي نون) تتشح “درّاعيتها” (لباس الرجال) و”ملحفتها” (لباس النساء) بخصوصية حميمة.

ملتقى الطرق التجارية

كلميم هي كبرى مدن محافظة منطقة واد نون، وهي تاريخيًا منطقة استراتيجية بامتياز، إذ تعاقبت عليها مجموعة من الحضارات، وهذا ما يبرر عدم وجود حدود قارة لهذا المجال الجغرافي عبر التاريخ، بل إن إحداثياته تتغير تبعاً لتغير المد والجزر في سخاء وعطاء الطبيعة، وتغير موازين القوى بين مستوطني هذه المنطقة؛ سواءً القارين منهم أو الرّحل الذين عادةً لا يبطئون، وإن كان هذا التغير بطيئاً وغير ملحوظ.

وتعاقب على الاستقرار بهذا المجال مجموعة من الحضارات والمكونات القبلية التي تنتمي بالأساس إلى مكون “تكنة” والذي يضم مجموعة من القبائل التي اتسم بعضها بطابع الترحال.

وادي النون، عرف أيضاً قبل إنشاء المدينة الحالية كلميم، استقراراً بشريا ذا طابع حضري بامتياز، وهو ما يترجمه وجود حاضرتي “نول لمطة وتكاوست” اللتين ميزتا تاريخ المنطقة لقرون خلت.

فبالنسبة لمدينة نول لمطة فإنها تعد من أبرز المدن التي تحدثت عنها المصادر التاريخية، التي همت المنطقة وتقع قرب قرية أسرير الحالية، والتي بلغت أوجها في عهد المرابطين خلال القرن الـ11 للميلاد، وتعد من المدن السبع الكبرى في مغرب القرنين الـ7 والـ8 للميلاد، إذ كان دورها التجاري يضاهي مدنا شهيرة في تاريخ المبادلات التجارية الأفريقية.

وقد كانت مدينة نول لمطة نقطة التقاء القوافل التجارية القادمة من أفريقيا جنوباً، والقوافل القادمة من الشمال، والأخرى القادمة من المحيط، بفعل وجود ميناء أساكا التاريخي على مصب واد أسكا الذي يصب في المحيط، الشيء الذي أكسب المدينة مرونة تجاه العواصم الإقليمية والاقتصادية، ويتجلى ذلك من خلال كثافة المبادلات التجارية، وذلك راجع لكون المرابطين لم يفرضوا أي قيود تجاه العلاقات التجارية، بسنّهم ضرائب على القبائل الواصلة إلى نول لمطة.

وإضافة إلى الدور التجاري لمدينة نول لمطة، عرفت هذه الأخيرة بازدهار الصناعات التعدينية وسك العملات، وهو ما أهّلها لتكون من الحواضر الأكثر أهمية خلال المرحلة المرابطية وما بعدها، إلا أن الازدهار بهذه المدينة سينتهي في المرحلة الموحدية بفعل الحروب التي نشبت على الطرق التجارية والموارد بالمنطقة. وستتراجع هذه المدينة لصالح المدينة التاريخية الأخرى التي لا تقلّ أهمية ويتعلق الأمر بتكاوست.

بالنسبة لمدينة تكاوست، وبعد إخلاء مدينة نول لمطة واندثارها، أخذت هذه المدينة مكانها على المستويين الاقتصادي والعمراني، حيث كانت تعد من أهم المدن خلال تلك الفترة وعاصمة واد نون بدون منازع، مستفيدة من موقعها التجاري وقربها من المحيط، وقد عرفت المدينة أوجها في عهد الدولة السعدية، وبالضبط إبان حكم السلطان المنصور الذهبي، الذي استعمل المدينة كقاعدة لانطلاق جيوشه نحو الصحراء لغزو ما كان يعرف ببلاد السودان (أفريقيا الغربية).

وكما هو الحال بالنسبة لسابقتها فإن مدينة تكاوست عرفت تراجعا كبيرا إلى أن اندثرت بشكل كلي بفعل بناء ميناء الصويرة، وإنشاء مدينة كلميم القريبة والتي انتقلت إليها كل المبادلات التجارية، مستغلة بذلك موقعها الاستراتيجي الذي جعل منها ملتقى الطرق التجارية الرابطة بين المغرب وأفريقيا جنوب الصحراء، ونقطة عبور لا محيد عنها، الشيء الذي سمح لها بمراقبة الطرق وضمان أمن القوافل التجارية. وقد تعززت هذه المكانة التجارية والاقتصادية لهذا المجال باحتضانه لأحد الأسواق التجارية الكبرى بالمنطقة والمعروف باسم سوق “أمحيريش” الذي كان يعد مركزاً اقتصادياً مهما وفضاء تجارياً معروفا على الصعيد المحلي والجهوي، ويمتد على مساحة تقدر بأكثر من ثلاثة هكتارات.

حاضرة الجنوب

امتداد منطقة وادنون يصل إلى السفح الجنوبي للأطلس الصغير، وبمحاذاة الأطلسي، ما جعل من وادنون منطقة انتقالية بين المغرب المتوسطي والمغرب الصحراوي، وقد عرفت هذه المنطقة استقرارا بشريا قديما تمثل في تعمير مجموعة من الواحات وظهور مدن عريقة؛ ارتبط ازدهارها بنشاط الرعي والزراعة والتجارة الصحراوية العابرة نحو القارة الأفريقية، وهذا ما جعل هذه البقعة تلعب أدوارا مهمة عبر تاريخ المغرب ماضيا وحاضرا.

لقد اضطلعت المنطقة بدور مهم في تاريخ الجنوب المغربي واستأثرت بأهم التحولات السياسية والاقتصادية، وحتم عليها موقعها أن تلعب دورا أساسيا في مجمل الأحداث التي عرفتها المنطقة؛ كما سمح لها هذا الموقع الجغرافي لتصبح إحدى المحطات الرئيسية للتجارة العابرة للصحراء؛ حيث تنتهي عندها طرق تجارة القوافل القادمة من السودان، وهذه الأهمية جعلتها تتعرض لتهافت التجار الأوروبيين، وقد مكنها وقوعها على الواجهة البحرية من الاتصال بالخارج، بينما انفتاحها على الصحراء أتاح لها نسج شبكة من العلاقات التجارية.

وتعد الفلاحة أهم نشاط اقتصادي حيث يشغل يدا عاملة مهمة معتمدا في ذلك على الإمكانات المائية وخصوبة الأراضي، بالرغم من أنه يعاني من ضعف الاستثمار وانتشار الضيعات التي تعتمد على الأدوات التقليدية، بالنظر إلى ضعف المساحات المخصصة للزراعة، كما تتوفر المنطقة على وحدات تقليدية وأخرى عصرية لتربية النحل بالإضافة إلى قطيع هام ومتنوع من الماشية من إبل وماعز وأغنام وأبقار.

هذه المدينة الصحراوية، شكلت همزة وصل بين الشمال المغربي والامتداد الأفريقي، وظلت ماسكة بخيوط تجارة القوافل، وتدل الآثار الموجودة حتى الآن على وجود مدن عريقة تدل على حضارة لم يكشف النقاب عنها بعد.

عندما انقرضت مدينة تكاوست، وقع الاتفاق بين القبائل على إقامة سوق اسبوعي بربوة صغيرة قرب حاضرة كلميم وما زال اسمها إلى الآن مشتقًا من ذلك الاتفاق “كويرة السوق” (ربوة السوق) وكان لقرب المدينة من السواحل دوره الاستراتيجي في أهميتها كعاصمة.

وقد أصبح ملتقى كلميم يمثل وضعية متجددة تلتقي فيها مختلف العوامل الاقتصادية، وكانت المدينة تضم ثلاثة أحياء متفرقة؛ أكادير المعروف باسم “اكويدير” وهو حي كان لعلية القوم، وفي غرب هذا الحي كانت توجد القصبة ثم القصر في الجنوب، بينما استقر يهود المدشر في ملاح شمال القصر يتوفر على بيعة واحدة وبعض الدكاكين.

وهكذا أصبحت مدينة كلميم تحتل الصدارة في المبادلات التجارية، وكانت سوق كلميم تشكل نقطة التقاء التجار القادمين من الشمال وأولئك القادمين من تمبكتو، كما أن أهم السلع التي يعرضها مغاربة تمبكتو في أسواق كلميم هي الملح والصمغ والنسيج القطني وريش النعام والحلي من الذهب والفضة، وقد استمرت تجارة القوافل كوسيلة فعالة للتبادل التجاري بين ضفتي الصحراء إلى الستينيات من القرن الماضي.

واعتبارا لموقعها الجغرافي المتميز ولمؤهلاتها الطبيعية والسياحية والتاريخية، فإن وادنون تشكل نقطة جذب بفضل مواقعها المتنوعة كسوق امحيريش الذي يعد من الأسواق الكبرى للإبل، ويرمز للدور الاقتصادي الذي تلعبه عاصمة واد نون عبر التاريخ.

كما تشتهر المدينة بمهرجان أسبوع الجمل الفني والثقافي والاجتماعي الذي ينظم أواخر شهر يوليو من كل سنة، ويتضمن سباق الهجن باعتباره من الفنون التراثية التي كانت تمارس قديما في بعض المناسبات وذلك في سياقات احتفالية تجمع بين البعدين الديني والثقافي المرتبط أساسا بزمن البداوة، وإقامة خيمة الرحل لتمكين الزائر من التعرف على مختلف التقاليد والطقوس التي تجسد الحياة اليومية للبدو الرحل، والترويح عن النفس واحتساء كؤوس الشاي الصحراوي، والاستمتاع بالموسيقى الحسانية والفنون التراثية المادية واللامادية؛ التي تعكس القيمة التي يمثلها هذا الموروث من دلالات في المخيل الشعبي.

مناخ صحراوي

المناخ السائد في المنطقة صحراوي، حار وجاف صيفا وبارد شتاء، لكنه يبقى معرضا للمؤثرات البحرية والقارية ويتراوح معدل التساقطات السنوية ما بين 100 و400 مل سنويا.

وتتميز الحرارة بالارتفاع حيث تصل إلى أزيد من 45 درجة صيفا؛ وبالرغم من التقلبات المناخية السريعة، وهبوب الرياح “الشرقية” (تنطق قافها جيمًا مصرية) فإن منطقة وادي نون تمثل إحدى المناطق الأكثر خصوبة على الضفة الشمالية للصحراء، بفضل التأثيرات البحرية الملازمة لامتداد الشاطئ بمحاذاة المنطقة.

جبال وهضاب

تتميز تضاريس المنطقة بكونها ضعيفة التموج حيث يمكن التمييز بين وحدتين تضاريسيتين كبيرتين هما: الوحدة الجبلية التي تتباين من حيث ارتفاعها ومن حيث تقطعها وأيضا تحدب القمم، ويمكن التمييز فيها بين كتلة أيت باعمران وأعراف باني وتيرت؛ وكذلك الوحدة الهضبية، التي تتمثل في هضبتي (لخصاص وتيسة وكير)؛ اللتين تقعان في الجهة الجنوبية لمنخفض كليميم.

أما بالنسبة للتربة فهي ضعيفة ولا تساعد على قيام نشاط زراعي بالشكل المطلوب، ويرجع ذلك إلى كونها إما تربة حصوية أو رملية، وقليلا ما نجد بالقرب من المجاري المائية تربة غرينية تسمح بإقامة نشاط فلاحي محدود.

وينتشر بجانب الأودية وعلى سفوح الهضاب غطاء نباتي غير كثيف خاصة: الدغموس والرمث وشجر الأركان، إضافة إلى شجرة الدفلة وشجر الطلح والسدر والطرفة والزيات.

منطقة واد نون، واحدة من أهم المناطق الحضرية في المغرب، والتي عرفت منذ أقدم العصور، ورغم قلة المراجع التاريخية، فالآثار الموجودة حتى الآن تؤكد وجود مدن عريقة تدل على حضارة لم يكشف سرها بعد، من ضمنها مدينة تكساوت (واعرون والقصابي حاليا) التي عاشت أكثر من ثلاثة قرون. وعندما هلكت، وقع الاتفاق بين القبائل على إقامة سوق أسبوعي؛ ولكن انعدام المياه العذبة وبعدها من القرى الآهلة جعل الأهالي يفكرون في تغييرها، ويقال إن الفكرة يعود الفضل فيها إلى عهد السلطان مولاي إسماعيل في نهاية القرن 18.

وكانت تلك الفترة هي عهد الازدهار بالنسبة للمنطقة الجنوبية بصفة عامة، وواد نون بصفة خاصة، إذ استفادت المنطقة من وجودها كملتقى للقوافل القادمة من فاس ومراكش والصويرة وغيرها، وكذا القوافل الأخرى الآتية من السودان، وأصبحت مدينة كلميم تحتل الصدارة في المبادلات التجارية وورثت في ذلك مكانة مدينة سجلماسة التي سيطرت على التجارة الأفريقية مدة قرون من الزمن.

واشتهرت كلميم بسوقها الأسبوعي، ومنطقة واد نون بمواسمها السنوية الكبرى، وكان أكبرها موسم الولي الصالح سيدي محمد بن عمر اللمطي اللمثوني، في قرية اسرير، وكانت كل القبائل تحج إليه من شمال المغرب ومن تمبكتو وكاو جنوبا.

أما المواسم الأخرى فهي موسم المولد النبوي بمدينة أسا، وموسم سيدي عمر أو عمران بالقصابي، وموسم سيدي الغازي بمدينة كلميم.

وفي هذه المواسم كانت تعرض جميع المواد المصنعة وغير المصنعة من شاي وسكر وسلاح وزرابٍ وأقمشة صوفية وغيرها… مقابل المواد التي كانت تأتي من السودان الغربي من عبيد وحرير وذهب وعاج وريش النعام وعنبر وجلود الحيوانات وغيرها.

والسلع كانت تحمل على ظهر الجمال في قوافل كبيرة تسمى أكبار بمعنى (القافلة) وفي الأكبار يصل عدد الجمال المحملة فيه من ألف جمل إلى عشرة آلاف، وخارج الأسواق الكبرى فان هذه القوافل كانت تصدر السلع عبر ميناء الصويرة.

التحدي الكبير

عاصمة محافظة واد النون، تعيش الآن كورش مفتوحة لتعويض ما فاتها إبان فترة عرقلة، إذ توقفت المشاريع التنموية في فترة الصراع السياسي والانتخابي، تلك الحقبة التي أنهكت الجهة وسكانها، مضت بما لها وما عليها، وعادت “المشاريع الملكية وعجلة التنمية التي توقفت وقتئذ إلى الدوران” وفق وصف أحد شباب المدينة لـ”القدس العربي”.

وحسب ما اطلعت عليه هذه الصحيفة من معطيات، فقد رصدت الدولة 800 مليون درهم (7.7 مليار دولار) لإنجاز 582 مشروعا على مستوى 14 مجالًا في ما بات يعرف بـ”الاقلاع التنموي” وأعلن عن الانتهاء من 22 في المئة من إجمالي المشاريع، في حين أن 48 في المئة تشرف على الانتهاء، لتبقى 30 في المئة على مشارف البدء في التنفيذ.

وعلى رأس هذه المشاريع، يأتي “طريق الصحراء السريع” بكلفة 8.5 مليار درهم (حوالي 850 مليون دولار) الذي من شأنه فتح الجهة على العمق الأفريقي وفق مشروع العاهل المغربي محمد السادس المتمثل في الانفتاح الاقتصادي على القارة السمراء.

مكانة المدينة التاريخية وموقعها الجغرافي الذي أهّلها لأن تكون أقدم حواضر الجنوب، وجعلا المفكّرين في بناء المشاريع يستبدلون أخفاف الأباعير بالسيارات العابرة، وأسنمةُ الجمال بالطائرات المحلقة التي بني لها مطار بتكلفة 273 مليون درهم، يستقبل رحلات جوية من مدن الداخل والخارج.

ومن التحديات الكبيرة التي تواجه مدينةً هي مدخل الصحراء الكبرى، مشكلة ندرة الماء، فكان أهم المشاريع التي بدأت بها الاشغال، بناء سد فاصك الكبير، بميزانية 1500 مليون درهم، ويحظى بدعم من دولة قطر، وكذلك بناء عدة سدود مائية لتخزين الماء، وحماية المدينة من الفيضانات التي ما تزال صورها موشومة بالذاكرة وموغلةً في ثنايا المشاعر منذ 2014.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: