من خلف أكثر من 200 ألف علم أميركي تمّ نصبها في منتزه ناشيونال مول، المقابل لمبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، يستعد العالم لبدء صفحة رجل لم يكن قد أنهى عقده الثالث عندما أصبح عضواً في مجلس النواب.
كان الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن هو السيناتور الأصغر عمراً في الكونغرس، إلى أن تم انتخابه نائباً للرئيس عام 2009، وعلى كرسيه ذاك خدم سبع مرات في مجلس النواب؛ خلالها ترأس لجاناً عدة، من أهمها وأخطرها كانت لجنة العلاقات الخارجية التي جعلته يزور أكثر من سبعين بلدا ويعقد لقاءات مع أكثر من مئة زعيم دولة.
عايش سبعة رؤساء؛ نيكسون، كارتر، ريغن، بوش الأب، ثم كلنتون وبوش الابن، وأوباما الذي كان نائباً له، أما الثامن فنافسه على الرئاسة. وها هو اليوم يسجل رقماً جديداً لكونه أكبر معمّر في موقع الرئاسة.
أوباما كان مجرّد صفقة
وُلد بايدن ونشأ بين ولايتي ديلوار وبنسلفينيا في العشرين من نوفمبر 1942 وحصل على إجازة في القانون من جامعة سيريكيوز عام 1968. أصول أسرته أيرلندية، وهو مسيحي كاثوليكي؛ وبذلك سيكون ثاني رئيس كاثوليكي بعد جون أف كينيدي الذي تم اغتياله في مشهد لم تُكشف ألغازه بعد. طفولته اتخذت مسارات ليست باليسيرة، فقد كان والده ميسوراً، ثم ساءت أحواله، فأصبح بائعاً للسيارات المستعملة. وكتلميذ لم يكن بايدن مميزاً في دراسته. كان يتلعثم في النطق؛ ثم تجاوز ذلك عبر إلقاء الشّعر أمام المرآة.
ومع ذلك لم يلق بايدن، وربما لن يلقي، خطاباً أهم وأعمق وأبلغ من خطاب رثائه للسيناتور الراحل جون ماكين. ذلك الخطاب التوحيدي الوئامي هو أكثر ما تحتاجه أميركا اليوم كي تضمد جراحها وتتجاوز مأزومية هويتها. بايدن وماكين من حزبين متناقضين، ولكن الأخير كان من حزب أميركا الواحدة؛ وهذا ما فتن بايدن وذكره بأمانة في تلك المرثية، قال عنه إنه “مليء بالشيم والمروءة؛ بالحلم والطموح. لقد لمس أرواحنا جميعاً. كان خصما عنيداً. وكما نفتقد قتاله الحزبي ورأيه الحاد، نفتقد صدقه ووطنيته“، وتلك كانت شيفرة ماكين التي التقطها بايدن.
نشوء تحالف جديد حول العالم يواجه الوباء بشكل أكثر حزماً، لن يستثني الصين بالطبع، ولكن الجميع يتساءل كيف سيبني بايدن ذلك التحالف؟
من يعتقدون أن بايدن سيسير على نهج أوباما، قد يصحّ تذكيرهم بأنه كان قد انتقد إسراع الرئيس الأسود نحو النجومية السياسية. وقال عنه حينها ”أوباما ربما يكون جاهزاً لها، لكن ليس الآن”. وقد أخذ عليه أوباما ما اعتبرها “ثرثرة” و”توزيع شهادات الوطنية”. في النهاية، انسحب بايدن من الحملة، واعتبر ترشيح أوباما، بعد غياب الديمقراطيين عن الرئاسة ليس أكثر من “صفقة“. وحين فكّر الديمقراطيون بهيلاري كلنتون كنائب للرئيس، لم يلق ذلك ترحيبا من أهل القرار. بايدن من طرفه رفض أن يكون المرشح للمنصب خشية تأثيره على مخططه المستقبلي؛ إلا أنه عاد ووافق بعد اجتماع سري بينه وبين أوباما.
سدَّ وجود بايدن جملة من الثغرات، على رأسها الخارجية والأمن والناخب الأبيض؛ حيث كان بشكل أو آخر المعادل الموضوعي لمرشح الجمهوريين آنذاك ماكين، وهذا الأخير لم ينجُ من هجوم بايدن الذي وصفه بعكس ما قاله في رثائه له. قال بايدن عن ماكين “ذلك الشخص الذي كنت أعرفه لم يعد هناك؛ وهذا يحزنني”.
أوباما من جانبه لم يكن مقتنعاً ببايدن؛ وتساءل باستغراب إثر بعض التصريحات الإشكالية لنائبه “إلى متى سيستمر بايدن في اطلاق تصريحات غبية؟”. من هنا، وخلال رئاسة أوباما، روى بعض القريبين من الإدارة أن أوباما كان يخفي عن بايدن الكثير من النقاشات ذات الطبيعة الاستراتيجية؛ وذلك كان يثير حفيظة نائبه كثيراً.
كأول نائب رئيس أبيض لأول رئيس أسود؛ كان بايدن بحجم الرئاسة الأميركية. أشرف على عملية انتقال الإدارة من بوش الابن إلى أوباما، وبحكم الخبرة في القضايا والسياسات الخارجية، قطع مئات الآلاف من الكيلومترات سفراً. وكانت طائرته تحطّ في العراق كل شهرين. قال له أوباما وقتها “شأن العراق بيدك جو“. ولا يمكن أن يكون أوباما قد أغفل موقف بايدن الشهير الداعي لتقسيم العراق بين مكوناته الطائفية والعرقية.
تمترس عند استقلال كوسوفو؛ وقال إن ذلك لا رجعة عنه؛ وتكريما لمواقفه أطلق اسم ابنه الفقيد على أحد الشوارع فيها. كما دعّم، مع تحفّظ خاص به، تدخل الناتو في ليبيا، وكذلك تنشيط العلاقات الاقتصادية مع روسيا. وكان مع تسليح المعارضة السورية؛ ومع الوقوف بحزم وقوة في وجه رئيس النظام السوري بشار الأسد؛ إلا أن صاحب القرار، أوباما، كان قد وقع في غرام سياسي مع ملالي طهران.
ابن شرعي للديمقراطيين
يعدّ بايدن ديمقراطياً نموذجياً، وفق معايير الحزب، فهو يتمتع بكل الصفات التي حرصت المؤسسة الحزبية الديمقراطية على ترسيخها، وهي تقاليد عريقة تعود إلى مفاصل مهمة في التاريخ السياسي للحزب. والتزامه بنهج الديمقراطيين يتجسّد أكثر في طبيعة فريقه، لاسيما في نائبته كامالا هاريس الأميركية المتحدرة من أصل هندي جامايكي. والتي ستدشّن أول وصول لسيدة لهذا الموقع المتقدم في هرم السلطة، علاوة على التشكيلة الدينية والعرقية التي تقوم عليها إدارته المرشّحة.
ومن هذا المنطلق ستكون لدى الرئيس الجديد أجندة مختلفة، ليس بالضرورة أن يظهر اختلافها ذاك بالقياس مع سياسات ترامب، كما يكثر المحللون من التوقّع، بقدر ما سيتوجه الرئيس الجديد نحو إصلاح العلاقة مع أوروبا وترميم الناتو والتركيز على التعاون في ملف الأمن العالمي.
سيعلن بايدن قريباً عن انطلاق ”الحرب العالمية الخامسة“ ضد كورونا، بجهود تحالف دولي ”ديمقراطي“، بعد الأولى التي وقعت إثر تفكك الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وحضور العدو النازي؛ والثانية الحرب لإنهائه، وبلورة القطبية الشيوعية الإمبريالية، والثالثة حربهما الباردة؛ والرابعة الحرب العالمية على الإرهاب. وما سيفعله بايدن انطلاقاً من هذا اليوم، هو إعلان نهايات كل تلك الحروب، وبدء مرحلة جديدة. وليس ببعيد عن ذلك إشارة ترامب في خطابه الوداعي الأخير إلى أنه الرئيس الأميركي الوحيد الذي لم يجعل بلاده تنخرط في أيّ حرب. فكيف سينعكس إلغاء بايدن لكل المخاوف التقليدية الأميركية المألوفة على السياسات الخارجية لإدارته، ومحو مفهوم ”العدوّ“ الذي قامت عليه استراتيجيات أميركية كبرى في الماضي؟
كبرى علامات سياسة الديمقراطيين في عهد أوباما تتجسد بانسحاب أميركا الكبير من العالم. فهل ستعني العودة الأميركية التي يتحدث عنها بلينكن استمراراً في الانسحاب أم انقلاباً على ترامب وأوباما معاً؟
لم ينته العام الماضي، قبل أن يرسل عرّاب السياسة الخارجية الأميركية الأكثر شهرة هنري كيسنجر تحذيراته لبايدن من احتمال نشوب حرب مدمّرة كبرى، بعد ما أسس له ترامب من خطوط نزاع وتوتر، لا سيما مع الصين. قال كيسنجر حينها “ما لم يكن هناك أساس ما لبعض الإجراءات التعاونية، فإن العالم سينزلق إلى كارثة مماثلة للحرب العالمية الأولى“. مضيفاً أن التقنيات العسكرية المتاحة اليوم ستجعل مثل هذه الأزمة “أكثر صعوبة للسيطرة عليها”.
كان ترامب يطلق على فايروس كورونا تعبير ”الفايروس الصيني“ مشيراً ليلاً ونهاراً إلى أن العدو هو الصين. وقد رصد ثعلب السياسة الأميركية ذلك حين قال إن “أميركا والصين تنجرفان الآن بشكل متزايد نحو المواجهة، وهما يديران دبلوماسيتهما بطريقة المواجهة“. وأشار إلى الوباء بالقول “إذا كان بإمكانك النظر إلى كوفيد على أنه تحذير، بمعنى أنه من الناحية العملية يتم التعامل معه من قبل كل دولة بشكل مستقل إلى حد كبير، ولكن الحل طويل الأجل يجب أن يكون على أساس عالمي إلى حد ما“. وهو ما سيعني نشوء تحالف جديد حول العالم، لن يستثني الصين بالطبع، من أجل الحرب على الجائحة. فكيف سيبني بايدن ذلك التحالف في عهده، وهو صاحب الخبرة الطويلة في التعامل مع الملف الصيني، ومع هذا فقد شهدت لغته الدبلوماسية الكثير من التشدّد حيال الصين خلال حملته الانتخابية، خاصة وأن الصين سارعت، قبل تنصيب بايدن، إلى عقد اتفاقات مع أوروبا وعدد من دول العالم، لتغير الخارطة التي كانت سائدة في عهد ترامب.
ومن هنا يبدأ تحدي بايدن في معالجة الأضرار الجسيمة التي يقال إن ترامب أحدثها بسبب ما سمّي بـ”السياسة التجارية العدائية“ خاصة مع الاتحاد الأوروبي والمكسيك، والتي يبدو أن الصين قد استغلتها لملء الفراغ.
هل عادت أميركا؟
لا ينكر حتى خصوم ترامب، الإنجازات الاقتصادية الكبرى التي حققها للولايات المتحدة على المستوى الداخلي، ما سيجعل مهمة بايدن في تحدي تلك المستويات أمراً صعباً للغاية، يطرح بايدن خططاً مختلفة كوعود منه لمن انتخبوه من الأميركيين، مثل ضريبة الـ10 في المئة على الشركات التي تنقل مواطن العمل إلى الخارج، إضافة إلى تشغيل أعداد كبيرة من العاطلين، ومكافحة تغير المناخ وتسهيل الانخراط في برامج التأمين الصحي وتأمين سكن رخيص وغير ذلك. لكن خبراء الاقتصاد ما زالوا متشككين حيال وعود بايدن الذي يبشّر بحزمة نفقات تفوق الـ5 تريليونات دولار خلال العقد المقبل. وبين شعار ترامب ”لنجعل أميركا عظيمة من جديد“ وشعار بايدن ”صنع في أميركا“ يزداد مزاد التخمينات إثارة، حول أميركا المستقبل.
أحدث تصريحات طاقم إدارة بايدن تأتي تطمينية لجهة الملف الإيراني، وهو أكثر ملف يقلق المراقبين العرب من سياسة الرئيس الجديد التي يخشون أنها ستكون امتداداً لسياسة أوباما حيال طهران. إلا أن لويد أوستن مرشّح بايدن لوزارة الدفاع، قال إن إيران تمثل، بالفعل، تهديدا لحلفاء بلاده في المنطقة وللقوات الأميركية المرابطة هناك. وأضاف أوستن خلال جلسة الاستماع لمناقشة التصديق على تعيينه “لا تزال إيران عنصراً مزعزعاً للاستقرار في المنطقة“، محذّراً من أنه إذا حصلت إيران على قدرة نووية في أيّ وقت، فسيكون التعامل معها بشأن أيّ مشكلة في المنطقة أكثر صعوبة.
أفريل هينز المرشحة لمنصب مدير الأمن القومي كانت أكثر وضوحاً حين قالت “نحن على مسافة بعيدة من عودة إيران إلى الالتزام التام بالاتفاق النووي”.
أما أنتوني بلينكن، المرشح لمنصب وزير الخارجية، فقد قال إن إدارة الرئيس الجديد ملتزمة بعدم حيازة إيران السلاح النووي، وإنها ستشرك دول الخليج وإسرائيل في أيّ مفاوضات نووية بشأن إيران.
ومما يجب التوقف عنده في تصريحات هؤلاء، تأكيد بلينكن على أن الولايات المتحدة عادت إلى “القيادة” لكنها ستعتمد الآن على حلفائها. ووسط ضجيج كل تلك المواقف، سرّبت صحيفة ”ذا تايم أوف إسرائيل“ أن إدارة بايدن بدأت، منذ الآن، في إجراء محادثات ”هادئة“ مع إيران بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، وقد تمّ إطلاع إسرائيل على تلك المحادثات.
كيف ستعود أميركا؟ بقرارات بايدن الـ17 التي يستعد لتوقيعها في يومه الأول؟ قرارات وصفها الإعلام الأميركي بأنها تاريخية، وأنها تتلخص في جملة أوامر رئاسية تتراجع فيها واشنطن عن تدابير ترمب، فقيل إن بايدن سيلغي انسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية وسيتعهد بالعودة إلى اتفاق باريس حول المناخ، ويتراجع عن حظر ترامب سفر مواطني بعض الدول إلى الولايات المتحدة، كما سيعلّق أعمال بناء جدار على حدود المكسيك.
لكن ألم تكن كبرى علامات سياسة الديمقراطيين في عهد أوباما عبارة عن انسحاب كبير من العالم وملفاته والتفات إلى الداخل؟ فهل ستعني تلك العودة الأميركية، التي يتحدث عنها بلينكن، استمراراً في الانسحاب أم انقلاباً على ترامب وأوباما معاً؟