أحمد الغول …. أسطورة درب السلطان

بوشعيب البازي

أحمد الغول…
لن نبالغ إن قلنا أنه كان أشهر شخصية شعبية وسط أحياء البيضاء حتى زمن قريب، فمن المستبعد أن نجد احدا لم يسمع عن مغامراته أو تردد اسمه على مسامعه طيلة الفترة الممتدة من بداية الستينات حتى بداية الالفية الثانية…. هو لقب حيكت حوله كثير من الأساطير والروايات بعضها صحيح وأغلبها مبالغ فيه،كانت صورته في مخيلة الجميع خرافية، رجل بقوة خارقة جبارة لا قبل لأحد بمقارعتها والوقوف أمامها… والحقيقة انه كان فعلا يتميز بالقوة والإندفاع البدني لكن ليس كما أشيع وتردد بكثير من المبالغة..

قوة اكتسبها من خلال عمله حمالا في الاسواق وممارسته لرياضتي المصارعة الحرة وحمل الاثقال، الحالة هذه مكنته من كسب النزالات والاحتكاكات والالتحامات الجسدية عبر طريقة تميز بها عن غيره، حيت كان يحمل خصمه بدراعيه في الهواء كما يحمل الرباع قضيب الحديد المثقل بالاقراص في جانبيه، ويطوح به مسافة مترين أو ثلاثة، هذه الحركة كانت سبب شهرته وشيوع خبره، بالاضافة لحادث شهير حبس الأنفس وأرعب القلوب ووصلت فيه الإثارة ذروتها عندما وجه ضربة قوية برأسه لناصية حصان خر صريعا جثة هامدة، فلكم أن تتخيلو مشهدا كهذا يقع بين ناظري الحشد من البسطاء ومايخلفه من انبهار واندهاش في عقولهم وزيادة الملح والبهارات أثناء الحكي عن ما شاهدته أبصارهم.. لكن حقيقة ماوقع لم يكن شيئا من قوة هالك الرجل الأخضر فناصية الحيوانات وخصوصا البعير منها منطقة حساسة جدا وضعيفة وتكون مهلكة لأبسط حادث، فكم من ثور ضخم لقي حتفه بمجرد رميه بحجر صغير أصاب تلك المنطقة بدقة..

وهكذا صار أسطورة خارقة تتبع خطواته حشود من الاطفال والنساء لشدة الانبهار والاعجاب، وصار اسمه يبث الرعب وسط أحياء الدار البيضاء ، وكانت النسوة ترافقن الرجال من عائلاتهن في حالة ما اضطررنا المرور من أماكن تواجده… خوف لم يكن مبررا كليا، فالبعض من من كان يسمع عنه كان يعتقد أنه مجرم خطير في حين انه لم يكن كذلك، كان “صعلوكا”، والفرق بين الحالتين خيط شعرة….المجرم صعلوك، الصعلوك ليس مجرما، وهذا التقارب بين الوضعين كان يفرض الخلط ويصنف الرجل تصنيفا مجحفا نوعا ما، فالصعلوك شخص يميل كليا لحياة الشارع بما عليها ولها وفيها من نواقص وشبهات وإسراف وتفريط، لكن دون الخوض في أفعال المجرم كالنهب والسرقة والاغتصاب والتعدي على الاشخاص والممتلكات، باختصار كان الرجل “فتوة”، والدليل أنه تزوج امرأة صالحة وخلف الكثير من الابناء البعيدين كل البعد عن ماضي أبيهم، ناجحون في حياتهم ومنهم من صار في بحبوحة من العيش….

قد يتسائل أحدهم ما حاجتنا للحديث عن صعلوك، هل هو عالم أم أديب أم فنان…هنا نجيب: ماذا استفدنا من المقالات المنتشرة هنا وهناك عن ريا وسكينة؟ وعن محمد منصور الشهير بخط الصعيد؟ وماذا استفاد نجيب محفوظ بتحويله شخصية محمود أمين سلمان لبطل رواية اللص والكلاب؟ وماحاجته لإقحام شخصية الفتوة في مجمل أعماله عن القاهرة “الحرافيش، التلاثية، فتوة العطوف” وماحاجة السينما المصرية لإنتاج أفلام مستوحاة من واقع الفتونة قصصا وشخوصا، هذه الشخصيات التي تردد اسمها في الاوساط الشعبية وتناقل الناس حكاياتها وسيرها بينهم، شئنا أم أبينا هي جزئ من ماضينا وتراثنا المعاش الذي مارس علينا نوعا من التأثير والاستلاب الذهني التخيلي، وآنس سمرنا ولغونا، وبحنظله وعسله تحول لقطعة من تاريخ منطقة
ومدينة.

ولد “أحمد ركيع” الملقب بالغول سنة1940 وترعرع في درب السلطان درب ميلان بمدينة الدار البيضاء، من أبوين قادمين من منطقة بني مسكين، اختار له والده حرفة النجارة لتكون مستقبله وضامن قوته لكن ميله لحياة الشارع ونفوره من الالتزام والانضباط دفعته لتعلم لغة الاحتكاكات البدنية والنزعات الفردية عوض لغة المطرقة والمسمار، ليشتغل بعد ذلك في مهن جانبية توفر له ما يقضي به يومه مع خلانه، فعمل حمالا للأمتعة يصعد بها فوق الحافلات، المهنة التي زادت من قوته البدنية وأكسبته الصبر والجلد وتحمل الأثقال ورفع الأوزان التي تضاعف وزنه وبزيادة،الشيء الذي دفعه للإنخراط في أحد الاندية الرياضية الخاصة برفع الأثقال والمصارعة الحرة والميل لكل مافيه توضيف وتحد عضلي..

اشتغل بعد ذلك حارسا ليليا لمصنع كان في ملكية الرئيس الجزائري الراحل بوضياف، ثم حارس أمن وحامي خيرية عين الشق من المتربصين باليتامى خصوصا الفتيات بعد طلب من الحاج عابد مؤسس الخيرية…

وكما هو ديدن ذلك الزمن حين كان لكل حي ورقعة جغرافية فتوتها، قرر أن يكون زعيم منطقته وحاميها من المتسلطين والمتربصين واللصوص والعصابات، وأن يقدم أيضا خدمة الفتونة تحت طلب، فقبل عرض تجار سوق الجملة الكبير بأن يخلصهم من عصابات السوق وفارضي الأتوات مقابل أجر شهري وعلاوات من كبار التجار مكنته من اقتناء اربع محلات تجارية في سوق القريعة الشهير مازال أحدها فاتحا أبوابه الى يومنا هذا يعرض منتجات الأفرشة المنزلية ويسيره أحد أبنائه، وهذه اشارة فقط لنفي الاشاعة التي تقول أنه توفي متسكعا فقيرا في الشوارع…كما ساهمت شهرته في عالم الفتونة في التقرب من رجال السياسة والسلطة حيث كانت تطلب منه الاحزاب السياسية حماية تجمعاتهم الحزبية من البلطجية والمخربين المسخرين من أحزاب أخرى في ظل الصراع السياسي الحاد الذي كان سائدا في تلك الفترة… عمله هذا مكنه من الحصول على رخصة مقهى استغلها في فتح احداها في درب ميلا قضى فيها أيامه الأخيرة….

وجاء لقب أحمد الغول بعد حادث طريف حين طلب منه أصدقائه أكل دجاجة ضخمة سمينة في زمن قياسي، ليتمكن من ذلك ويصرخ أحد الحضور “هذا غول ماشي بنادم”..

وتبقى واقعة “عراك الدراجة” في أحد أيام صيف سنة 1970 أكثر معركة شعبية شهرة في تاريخ الدار البيضاء وأشهر ما حكي عن أحمد الغول ومازال عالقا في الأذهان الى يوم الناس هذا، ونعيدها مرة ثانية، معركة لم تكن عملا بطوليا نضاليا أو شيئا يفتخر به، ولكن الشخصيات الشعبية وما ارتبط بها من أحداث كان له وقع وتأثير على مخيلة الناس، كما يتأثر الناس اليوم بشخصيات باط مان وسوبر مان بالرغم من انها شخصيات وهمية….

نالت تلك المعركة شهرة كبيرة لكونها جمعت بين طرفين لهما وزن وتأثير في رمزية تفوق الأحياء وتميزها عن بعضها وقوة الأطراف المتصارعة، أحمد الغول يمثل منطقة حي الفرح ودرب ميلا في مواجهة مجموعة من حي درب الكبير المعروف بشراسة وبأس أبنائه…

بدأت أحداث وفصول الواقعة بعد اعتداء شنيع تعرض له أخوه من طرف أحد أبناء درب الكبير كمحاولة لاستدراج الغول في إطار تصفية حسابات عالقة، عند عودة أحمد للحي وجد أخاه في عتبة المنزل مدرجا في دمائه وحشود غفيرة في الانتظار، فحادث مثل هذا ينذر بأمر جلل ويعد بفرجة مثيرة، حمل عصى كبيرة الحجم وضعها في قفة وامتطى عربته التي يجرها حصان وانطلق مسرعا نحو درب الكبير وتبعه الملئ الذي تحول الى حشود بعد إلتحاق المارة الذين صادفوا المشهد في الطريق، وصل لمكان يسمى ساحة الجامع حيث تجتمع الشلة الغريم فوجد في اننظاره الشايط، حازوط، باطا، تريميشا وعربان، هذا الأخير كان رياضيا يمارس الملاكمة ويتمتع بهيكل قوي ضخم، وهو نقطة قوة الفريق الخصم الذي يجب تحييده لمواجهة البقية، فطلب منه أن يكون صراعا ثنائيا رأسا لرأسا، وكانت خطته أن يلتحم مع غريمه جسديا ويلتصق به بسرعة ليكون صراعا عضليا وليتفادى اللكمات التي يمكن أن تسبب في إغمائه، بعد دقائق من العراك والتقلب فوق الإسفلت أحكم احمد الغول قبضة دراعه حول عنق عربان فأغمي عليه، ليتدخل الشايط ويرتمي عليه ويدخل معه بدوره في عراك كان أعنف من سابقه واستمر دقائق كثيرة، ليتدخل بعد ذلك بقية الفريق باللكمات والضرب بالعصي، وبالرغم من هذا التفوق العددي والعضلي استطاع الصمود وإظهار طاقة جبارة ونفس طويل، فلم يكن من حل سوى تقييد حركته وشلها وهكذا فكر حازوط الذي حمل دراجة هوائية وقام بحشو إطارها الحديدي في جسد أحمد الغول الذي وجد نفسه عاجزا تماما عن الحركة فانهالت العصي على رأسه ليسقط مغشيا عليه، لكنه سرعان ما استفاق واستطاع تخليص نفسه فانهمر عليه سيل من الحجارة والصناديق الفارغة خر على إثرها دون حراك ليعتقد الجميع أنه فارق الحياة ويفروا من مكان الحادث، لكنه استيقظ مرة اخرى ولملم جسده المنهك وامتطى عربته وقفل راجعا لحيه…

ومع كثرة الأعداء والخصوم ازدادت مشاكله مع الأمن والسلطات، حيث كان اللصوص وقطاع الطرق يتقمصون شخصيته ويوهمون ضحاياهم أن أحمد الغول هو من قام بسرقتهم، فنصحه أحد الضباط باسدال لحيته لتكون علامة مميزة له وبرهانا على سلامة ذمته من تلك الجرائم، فسؤال الضحية عن بروفايل المدعي أنه الغول وإذا ما كان يحمل لحية كفيل بمعرفة الحقيقة والاستغناء عن المواجة بينهما…

سنوات بعد ذلك سيتزوج أحمد الغول من امرأة صالحة جميلة وينجب منها أبناء وبنات، لكنه سيفجع أيما فجعة بوفاة ابنته الصغرى دليلة في حديقة الألعاب “ياسمينة” على إثر سقطة قوية من فوق لعبة الطائرة الدوارة، حدث غير مسار حياته كليا وقلب شخصيته رأسا على عقب، وتخلى عن دور الفتوة وعالم الصراعات والزعامات، وانخرط في مجالس البسطاء لتبادل المستملحات والطرائف عوضا عن الضربات واللكمات…ويقضي بقية حياته متنقلا بين منزله ومقهاه بدرب ميلا، ومحلاته في القريعه والمسجد حتى وافته المنية رحمه الله يوم 22 مارس 2016 على الساعة التاسعة ليلا…

 

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: