تراهن فرنسا، مستقبلا، على تأهيل الأئمة وتكوينهم داخل البلاد، ومنع استقدامهم من دول أخرى مثل تركيا وذلك في إطار خطة شاملة لمكافحة الانفصالية الإسلامية التي تغذيها جماعات الإسلام السياسي، الحاضنة الأيديولوجية والفكرية للتطرف. وتتعرض الخطة الفرنسية لمحاولات عرقلة تقودها جماعات الإسلام السياسي داخل الهيئات الممثلة للمسلمين، ما يحتم، حسب مراقبين، إعادة النظر بصفة جذرية في “ولاءات” التمثيليات الإسلامية قبل تشريكها في رسم السياسات العامة.
توصل مسؤولو المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، بعد أسابيع من الخلافات الداخلية، إلى اتفاق على “شرعة مبادئ” حول الإسلام في فرنسا ليكون أول خطوة في مسار إعادة تنظيم الديانة الثانية في البلاد، بعد أن سعى ممثلو تيارات الإسلام السياسي داخل الهيئات الممثلة للمسلمين في فرنسا إلى إعاقة التوافقات ومن ورائها الخطة الفرنسية لمكافحة الانفصالية الإسلامية.
وأفاد رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية محمد موسوي في بيان بأن الشرعة تنص خصوصا على “مبدأ المساواة بين الرجال والنساء” و”توافق” الشريعة الإسلامية مع مبادئ الجمهورية، وتشدد على “رفض توظيف الإسلام لغايات سياسية”، وعلى ضرورة “عدم تدخل” دول أجنبية في شؤون الجالية.
وأضاف البيان أن النص الذي يشدد أيضا على “رفض بعض الممارسات العرفية التي يزعم أنها إسلامية” سيعرض على الاتحادات التابعة للمجلس للمصادقة عليه قبل تقديمه للرئيس إيمانويل ماكرون.
وأشاد وزير الداخلية جيرالد دارمانان السبت خلال اجتماعه مع ثلاثة من أبرز المسؤولين في المنظمة بـ”التقدم الكبير” المحرز وبالالتزام ضدّ “الإسلام السياسي”.
وتسمح تلك الخطوة بإنشاء مجلس وطني للأئمة سيكون مكلفا بالإشراف على الأئمة في فرنسا، وبمقدوره سحب ترخيص نشاطهم في حال خرقهم لمبادئ الشرعة.
واعتمادا على دور كلّ من الأئمة: إمام صلاة وخطيب مسجد وداعية، سيتعيّن على كلّ إمام الإلمام بمستوى مختلف من اللغة الفرنسية وحيازة شهادات دراسية يمكن أن تصل إلى المستوى الجامعي.
وكان عميد مسجد باريس الكبير، المحامي الجزائري شمس الدين حفيظ قد انسحب من النقاشات حول الميثاق والمجلس الوطني للأئمة في نهاية ديسمبر، على خلفية وجود تأثير لجهات “إسلاموية” داخل المجلس.
وأوضح حفيظ “للأسف، المكوّن الإسلامي داخل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، خصوصا ذاك المرتبط بأنظمة أجنبية معادية لفرنسا، عطّل بخبث المفاوضات عبر طعنه شبه المنهجي في بعض الفقرات المهمة” من الميثاق.
واستنكر سعي “أعضاء في الحركة الإسلامية” إلى إظهار أن “الميثاق يهدف إلى المس بكرامة المسلمين”، واصفا ذلك بأنه “كذب مفضوح”.
وأكد أن تمثيل المسلمين يستحق الابتعاد عن “الممارسات المشكوك فيها والمحاطة بأفعال تسعى إلى زرع الشقاق في صفوف المجتمع الوطني وفصل الفرنسيين المسلمين عن مجتمعهم”.
ومن بين هذه الاتّحادات التسعة التي تمثّل قسما كبيرا من مسلمي فرنسا التي أشار إليها حفيظ هناك ثلاثة اتحادات لا تعتمد “رؤية جمهورية”، وفقا للإليزيه، فيما يؤكد مراقبون أن هذه الاتحادات هي “ميللي جوروش” التركية وتنظيم “مسلمو فرنسا” القريب من الإخوان المسلمين، إضافة إلى منظمة الإيمان والممارسة المقربة من جماعة التبليغ.
وأقرّ نائب رئيس المجلس إبراهيم ألسي بأنه “كانت هناك خلافات”، مؤكدا على أنه جرى تجاوزها وأنه يجب “التقدم بحكمة من أجل تمثيل الجالية المسلمة في فرنسا”.
ووفق هذا المسؤول الذي شارك السبت في الاجتماع مع وزير الداخلية، فإن مصادقة اتحادات المجلس على الشرعة لن تواجه أيّ صعوبات.
وأضاف “المهم أن نجلس ونتحدث بهدوء”، مشددا على أن الشرعة يجب أن تفرض على جميع ممثلي الجالية المسلمة. وتابع ألسي “يجب أن نضمّ الجميع ونوضح أن الإسلام لا يتعارض مع الجمهورية”.
وبتجاوز الخلافات، تخطو باريس خطوة هامة في تركيز خطتها لمكافحة التطرف الإسلامي الذي تغذيه جماعات الإسلام السياسي التي تعتبرها السلطات الحاضنة الفكرية والأيديولوجية للتطرف.
منذ خطابه في مطلع أكتوبر ضدّ الانفصالية والإسلام المتطرّف وبعد الهجومين الجهاديين اللذين راح ضحيتهما المدرّس صامويل باتي ذبحا قرب باريس وثلاثة أشخاص قتلوا داخل كاتدرائية في نيس (جنوب شرق)، زاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضغوطه على قادة الديانة الإسلامية في فرنسا لتنقيتها من النفوذ الأجنبي والتطرّف والنزعات السياسية.
وكان الرئيس الفرنسي قد أعلن عقب مقتل المدرس باتي عن سلسلة من التدابير لمحاربة كل أشكال التطرف الإسلامي.
وشملت التدابير التي أعلنها ماكرون أربع ركائز، تتضمن متابعة التمويل الذي تحصل عليه المؤسسات الدينية بصفة عامة، والمساجد بصفة خاصة، ومنع استقدام الأئمة من دول أجنبية؛ كي يتمّ تحرير الخطاب الديني من أي أهداف سياسية وأيديولوجية، كما سيجري تدريب الخطباء والأئمة في فرنسا تحت إشراف الحكومة عوضا عن تدريبهم بالخارج.
ومنذ سنوات، تبحث الحكومات الفرنسية المُتعاقبة عن آليات لتأهيل مُتخصصين في الإسلام المُعتدل بفرنسا، مع ضمان تلبيتهم لمُتطلبات الاندماج في المُجتمع الفرنسي، مثل إتقان اللغة الفرنسية، والحرص على التنوع الثقافي، واحترام تراث وتاريخ وقانون البلاد، والحفاظ على مبادئ وقيم الجمهورية والعلمانية.
وكانت فرنسا قد أوقفت برنامجا لاستجلاب الأئمة من تركيا، أكدت أجهزة الاستخبارات الفرنسية أنهم يشكلون عصب دعم الانعزالية وانفصال الجاليات المسلمة عن مجتمعاتهم المحلية و مبادئ الجمهورية.
وفي 2010، وقعت كل من تركيا وفرنسا “إعلان نوايا” بخصوص وضع الموظفين الدينيين الأتراك، والذي تم بموجبه رفع عدد الموظفين من 121 إلى 151 موظفا، لكن باريس تراجعت في 2019 عن هذا الإعلان بتخفيض عدد الأئمة الأتراك بدل الترفيع في حصص انتدابهم، كما انتهجت النمسا نفس الخطوات.
ويقول خبراء فرنسيون إن قرار فرض قيود على إيفاد أئمة من تركيا بهدف إلى القضاء على خطر الانعزالية وهي خطوة مهمة ضمن خطة شاملة لمحاصرة أنشطة جماعات الإسلام السياسي.
وتبدي الدول الأوروبية قلقا بشأن دعم أنقرة للأئمة الأتراك وتمويل المساجد والجمعيات الإسلامية، حيث اتجهت بعض دول الاتحاد الأوروبي إلى إغلاق العديد من المساجد التي يديرها أتراك والامتناع عن استقبال أئمة جدد من تركيا.
ماكرون يأمل، من وراء تشكيل المجلس الوطني للأئمة، أن ينهي، في غضون أربع سنوات، وجود 300 إمام أجنبي في فرنسا
ويأمل ماكرون من وراء تشكيل المجلس الوطني للأئمة أن ينهي في غضون أربع سنوات وجود 300 إمام أجنبي في فرنسا “مبتعثين” من تركيا وغيرها من الدول الإسلامية.
وفي اجتماعه مع قادة الديانة الإسلامية قال ماكرون لممثّلي الاتحادات التسعة المنضوية في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إنّه يعلم أنّ عددا منها لديه مواقف غامضة من هذه الموضوعات، مشدّدا على مسامعهم على أنّه من الضروري “الخروج من هذا الالتباس”.
وأوضح رئيس المعهد الأوروبي لعلوم الأديان التابع للمدرسة التطبيقية للدراسات العليا ديدييه ليسشي أن “قليلا من الأئمة لهم تدريب جامعي مع انفتاح على العلوم الاجتماعيّة”.
واعتبر ليسشي أن “نقص رجال الدين المثقفين” يعزز في فرنسا “نزعة محافظة تتعارض مع مكاسبنا الاجتماعيّة”.
وبحسب تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي تقوم رئاسة الشؤون الدينية التركية “ديانات” بتوظيف 151 إماما تركيا في المساجد الفرنسية، وتدفع رواتبهم مباشرة من أنقرة، كما يتلقون تدريبا وتعليما في مدارس دينية تركية.
وكان تقرير لمجلس الشيوخ في فرنسا، أعدّته لجنة تحقيق أُنشئت في نوفمبر 2019 بمبادرة من حزب الجمهوريين، قد حذر في يوليو الماضي من أنّ “التطرف الإسلامي” في تزايد بعدد من مناطق فرنسا، مشيرا إلى ضرورة أخذ الحذر من 50 ألف عضو من الإخوان المسلمين و40 ألفا من السلفيين.
وقدّم التقرير، الذي تمّ إعداده بناء على 70 مقابلة أجراها أعضاء مجلس الشيوخ مع باحثين وناشطين وجهات فاعلة في المؤسسات وقادة سياسيين، نحو 40 إجراء للحدّ من “التطرف الإسلامي” المتزايد، ومن بينها منع التحريض والخطابات الانفصالية ومراقبة بعض المدارس والجمعيات وتوعية المسؤولين المنتخبين ووسائل الإعلام.
وحذر الصحافي أفان ريوفول في كتابه “الحرب الأهلية قادمة” من خطة الإسلاميين في زعزعة النظام العام بإشعال الصراع بين الأقليات في ما بينها وبين الفرنسيين، وهو تحذير نجد صداه في الخطة الفرنسية الشاملة لمواجهة الانفصالية الإسلامية والمجتمعات الموازية.
خطة فرنسية شاملة
يرى مراقبون أن الدوائر الإخوانية بدأت تفقد مكانتها ونفوذها في فرنسا، خاصة في علاقتها بأوساط الجاليات المسلمة بعد أن فشلت في تكوين أجيال جديدة، ذات شعبية، غير أن الجزء الأكبر من نفوذها اليوم يكمن في القوة الناعمة التي تمارسها من خلال التعليم، فالجماعة كانت سباقة في افتتاح المدارس الطائفية الإسلامية.
ويشير هؤلاء إلى أن سنوات خداع جماعات الإسلام السياسي في فرنسا، قد بدأت في أن تصبح مجرّد تاريخ بعد أن أبدت السلطات الفرنسية، الأمنية والقضائية حملة شرسة لمجابهة توسع شبكات الجماعات الإسلامية الإخوانية وخاصة ملاحقة مسالك تمويل نشاط هذه الجماعات ومراكز نفوذها.
واستكملت فرنسا مؤخرا وضع اللمسات الأخيرة على خطة شاملة لما أسماه الرئيس ماكرون مواجهة “الانعزالية الإسلامية”، والمجتمع الموازي المنغلق على ذاته الذي تفرضه جماعات إسلامية متشددة مثل الإخوان المسلمين والسلفيين، مستفيدة من قدرتها على توفير تمويلات مشبوهة لبناء مساجد ومدارس وجمعيات ثقافية وتربوية نجحت من خلال المساعدات في تمتين نفوذها بين الجالية المسلمة.
ويجرّم مشروع القانون كلّ من يشارك بمعلومات حول شخص تتسبب في كشف هويته أو مكانه لأشخاص يريدون إيذاءه.
وقدم الرئيس الفرنسي أمثلة على تنامي النزعة الانفصالية، مثل أطفال من عائلات مسلمة شديدة المحافظة أُخرجوا من المدرسة، وجمعيات رياضية وثقافية تستعمل لتلقين الشباب أفكارا متطرفة.
ويورد النص أنه “في مواجهة الإسلام المتطرف، وفي مواجهة كل (النزعات) الانعزالية، علينا الإقرار بأن ترسانتنا القانونية عاجزة جزئيا”.
ويهدف مشروع القانون أيضا إلى مكافحة الكراهية على الإنترنت المشابهة لتلك التي تعرض لها باتي، وضمان “المثول الفوري” للمتهمين أمام القضاء، كما يضع عقوبات محددة على من يتعرض لموظفي الدولة أو مسؤولين منتخبين، على أساس ديني.
وجاء في المشروع أنه يجب على كل جمعية تتلقى دعما ماليا أن “تحترم مبادئ وقيم الجمهورية، كما سيتم اعتبار التبرعات الأجنبية التي تتجاوز 10 آلاف يورو موارد يجب التصريح بها لجهاز الضرائب.
ويحرص النص على “ضمان شفافية ظروف ممارسة الديانة” عبر تغيير قانون 1905 حول الفصل بين الكنيسة والدولة في شق تمويل الجمعيات الثقافية، لناحية تعزيز الشفافية.
ويوجد فصل “ضد الانقلاب” ويهدف إلى تجنب سيطرة متشددين على المساجد، ومنع أشخاص من ارتياد أماكن العبادة “في حال الإدانة بالتحريض على أفعال إرهابية أو التحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف”.
وقال وزير الداخلية الفرنسي “سنعرف من يموّل من على أراضينا وسنعطي إمكانيات أكبر لوكالة: تراكفين، (الحكومية لتعقب الأموال) لصد كل التدفقات غير المرغوب فيها”.
وتوجد في الشقّ التعليمي لمشروع القانون إشارة إلى مكافحة مدارس الجمعيات غير القانونية وإنهاء التعليم في المنزل لجميع الأطفال اعتبارا من سن الثالثة “إلا لدواعي محدودة جدا تتعلق بوضع الطفل أو عائلته”.
ويقول حسن شلغومي، رئيس مؤتمر أئمة فرنسا، إن “السياسة الفرنسية الجديدة في مواجهة التيارات المتطرفة وجماعة الإخوان، وإن جاءت متأخرة بسنوات عديدة، إلا أنني لا أعتقد أنها ستتوقف عند بعض الإجراءات الإدارية، وإنما ستتواصل في اتجاه مكافحة التمويلات المشبوهة لهذه المجموعات وقطع الولاءات الأجنبية لها تماما”.
ووفقا لمجلة لوبوان، فإن القانون الجديد سيرفع من صلاحيات الخلايا الجهوية الخاصة بمكافحة الإسلام السياسي والانفصالية داخل المجتمع وسيزيد من سلطة المحافظين والولاة.
وأوضحت مارلين شيابا، الوزيرة المكلفة بالمواطنة لدى وزارة الداخلية في تصريحات صحافية، إن المشروع يعالج كافة المناطق الرمادية في القوانين الموجودة، والتي لا يمكن من خلالها معاقبة المخالفين لقيم الجمهورية.
وأضافت “رغم الفراغ القانوني، فإن هناك الكثير من الأشياء التي تم القيام بها، حيث استطاعت السلطات خلال الثلاث سنوات الماضية إغلاق قرابة 250 فضاء، بينها مدارس ومساجد، تبشر بأيديولوجيا انفصالية وواجهت خلال ذلك مشاكل حقيقية تتعلق بالسلامة العامة”.
وحلت الحكومة الفرنسية جمعية “بركة سيتي”، المقربة من التيار السلفي، وقامت وبإغلاق جامع مدينة بانتان في شمال باريس، المقرب من جماعة الإخوان، بسبب التحريض على المدرس صامويل باتي قبل مقتله.
وفي بداية نوفمبر الماضي قررت وزارة الداخلية الفرنسية حلّ حركة الذئاب الرمادية التركية المتطرفة، على خلفية ترويجها للكراهية وارتكاب أعمال عنف على التراب الفرنسي.