تتنامى ظاهرة بناء المساجد في البلدان الأوروبية وتُرصد لها أموال طائلة، فيما تشح التبرعات للمستشفيات ومساعدة الفقراء والمحتاجين، ما يثير مخاوف من النفوذ الخفي لبعض دور العبادة ودورها المشبوه في نشر الأفكار المتشددة بين الناس.
تتجسد اليوم مقولة الكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم “من سرق المسجد” في كتابه الشهير “الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟” حيال التهافت السياسي والتجاري في بناء دور العبادة الفائضة عن حاجة المجتمعات الإسلامية، بينما لا يتم الالتفات إلى حاجة تلك المجتمعات .
وارتبط مفهوم الصدقة الجارية في أذهان عدد كبير من المسلمين، ببناء مسجد أو تخصيص قطعة أرض في موقع متميز للغرض نفسه، وهي قناعات رسخها أنصار تيارات متطرفة اعتادت التعامل مع المساجد باعتبارها الرمز الرئيسي للدين الإسلامي، بحجة أن كثرة أعدادها تعكس تدين أصحابها.
ولم تعد الأزمة مقتصرة على الفكر الذي يروجه إسلاميون حول أن العمارة في الأرض وفعل الخيرات يقتصران على بناء المساجد، فالمشكلة الأكبر هي في تسرب نفس القناعات لإدارة المؤسسات الدينية المعنية بالإشراف على دور العبادة، حيث صار بعضها يسير على نفس المنوال، ويتباهى بزيادة المساجد كنوع من التعبير عن عظمة الإسلام.
وعند النظر إلى خلفيات التوسع في بناء المساجد كرمز للإسلام، يبدو جليا أن الظاهرة منتشرة في بلدان أوروبية كثيرة، وتروج لها فيدراليات دينية يُفترض أنها أول من يقف بالمرصاد في وجه التناقضات التي زرعتها تيارات متطرفة في أذهان الناس حول مفهوم التدين، وأولويات فعل الخير والتقرب إلى الله.
و يبقى تمويل العديد من المساجد موضع شك في بلجيكا و خصوصا عندما يتعلق الأمر بأموال من الصعب جمعها من عند المحسنين و المصلين.
هذا الذي رصدته تقارير صحافية بمنطقة بروكسيل و خصوصا بفيلفورد التي تعرف بناء مسجدا النصر على سبيل المثال الذي تم إعادة بنائه بكلفة 2 مليون و 700 ألف أورو زيادة على 275 أورو ثمن شراء البقعة الارضية ( مصنع قديم ) التي بني عليها .
الشيء الذي جعلنا نطرح السؤال على رئيسه و رئيس فدرالية مساجد الفلاندرن السيد ميمون أقيشوح عن مصدر هذه الأموال ، إلا أن الجواب كان غير متوقعا و كان خارج عن النطاق ، بالسب و القذف و اللعنة و هذا لم نكن نتوقعه من شخص يدعي أنه يعرف الله و يتكلم بإسم الدين و يشرف على دور العبادة ، مما جعلنا نوجه سؤالنا لعدة أئمة و رؤساء المساجد ببلجيكا و الجواب كان واضحا من خلال تصريحات الشيخ محمد التوجكاني الذي صرح لأخبارنا الجالية في مكالمة هاتفية أن ” الإشتراكات بالمساجد أو ما يعرف ” بالشرط “محدودة ، المصلين يعطون 10€ حتى 15 € في الشهر و لكن أغلبية المساجد يعتمدون على جمع الأموال يوم الجمعة التي لا تتعدى 1000 أورو و منها من تعتمد على المدارس العربية و مداخيلها التي يغطون بها مصاريف المسجد من ماء و كهرباء و عدة مصاريف أخرى ” و أما بسؤالنا عن إمكانية جمع مبلغ المذكور سابقا و الذي كلف بناء مسجد النصر فجوابه كان ” من المستحيل و مهما كانت الحملات فلا يمكنهم جمع هذه الأموال ، و أما اذا كانت تبرعات من الخارج فهذا ممكن ” ” فمسجد الخليل لازالت عليه ديون بنكية مند 20 سنة و لازال يؤدي مصاريف البناء ” ” أما أن يصل الى جمع هذه الأموال فإذا لم يكن مستحيلا فهو مستبعدا”
و طرحنا نفس السؤال على الطاهر الشعبي رئيس مسجد ببلجيكا الذي صرح لنا على أن ” الأمر مستحيل إلا اذا كانوا يجمعون هذه الأموال مند أزيد من 20 سنة و ربما لن يتوصلوا لهذا المبلغ ” ” فنحن لم نتمكن من بناء مسجدنا و استلفنا مبلغ 300 ألف أورو من الجماعة التي أقطن بها بدون فائدة و نؤدي مبلغ 15 ألف أورو سنويا ”
كما أكد أن المبلغ المذكور من المستحيل جمعه و خصوصا و أن جميع المساجد تعاني من الجائحة و لم تتمكن من آداء المصاريف .
كما اتصلنا بالمسؤول عن خزينة مسجد النصر بفيلفورد الذي أكد لطاقمنا بأن المسجد له عائدات من الشرط الذي يؤديه 800 مصلي بقدر 125 اورو للفرد و مجموعه 100 الف أورو سنويا ، مما يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة عن مدى مدة جمع هذه الأموال و المصاريف الشهرية التي تؤديها الجمعية المسؤولة عن المسجد و التي يترأسها السيد ميمون أقيشوح .
هذا ان دل فهو يدل على أن بعض المساجد بأوروبا تستقطب اموالا طائلة مما يبرهن على أن توظيف المساجد في أغراض سياسية صار من أخطر الظواهر الدينية، و أن الأنظمة الداعمة للتيارات المتطرفة تستخدمها كقوة ناعمة لإضفاء شرعية على توسعاتها، فقد تجد بعض الحكومات العربية تخصص مبالغ طائلة لبناء مساجد في دول أوروبية وآسيوية وأفريقية للإيحاء بأنها حامية للدين.
فقد وجد البعض في المساجد الطريق المختصر لاستمالة مسلمي بعض البلدان لدعم سياساتهم خارج الحدود الجغرافية، ما يمكن متشددين من السيطرة على عقول الناس بشكل منظم، بحيث يظهرون أمام المجتمع في صورة الفصيل الديني الأكثر حرصا على الإسلام، ولا ضرر طالما يؤسسون المساجد ويعمرون الأرض بها.
وإذا كان الناس على مدى عصور مضت وقعوا في براثن تيارات اختزلت التدين والعمل الخيري في التبرع لبناء مسجد، فدور المؤسسة الدينية أن تتحرك لتفكيك هذه الأفكار، لا الترويج لها من خلال التعامل مع مضاعفة أعداد دور العبادة، على أنها إنجازات حكومية، لأن السلفي أيضا سوف يتحدث بذات النبرة، ويتمادى في جمع التبرعات من راغبي الجنة بأموالهم في الدنيا.
وبغض النظر عن توقيت تحلّي إدارة المؤسسات الدينية بالجرأة لفتح هذا الملف الشائك، فإن وجود إرادة سياسية لترشيد بناء المساجد صار أمرا حتميا، لأن التعويل على رجال الدين ضياع للوقت والمال وإهدار للاستثمار الخيري، لكن الأهم أن تتوقف بعض الحكومات عن التعامل مع بناء المساجد على أنه إنجاز سياسي ويعكس هيبتها وعظمتها ويضفي مسحة دينية على شرعيتها.