السلفيون يؤججون صراع الهوية في الجزائر

بليدي

فجرت فتاوى سلفية قديمة وقع تداولها في الجزائر، والتي تُحرّم الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، صخبا أيديولوجيا في البلد، وسط استقطاب حاد بين أنصار التيار السلفي المستهجن للاحتفالات، وتيار آخر يدافع عن هوية الأمازيغ وحقوقهم الوطنية. ويرى المتابعون أن التيار السلفي يعمد في كل مناسبة إلى تحريك صراع الهوية بهدف استثماره لصالحه وكسب الحشد الشعبي دون اكتراث لتداعيات فتاويه على الاستقرار الاجتماعي. وكشف انسياق طيف هام من الشارع وراء الفتاوى عن تغلغل هذا التيار في المجتمع، ولعل موجة الاستنكار الواسعة التي رافقت ما وقع تداوله على مواقع التواصل من إطلاق موسيقى في أحد المساجد بمحافظة تيزي وزو تزامنا مع احتفالات يناير دون التثبت من صحة ذلك، دليل على نجاحه في نشر ثقافة الانغلاق والتعصب.

 أثارت إعادة تداول فتوى دينية تحرم الاحتفالات بعيد يناير الأمازيغي، حالة استقطاب أيديولوجي غير مشهود في الجزائر، بين أنصار التيار السلفي ومعهم دوائر إسلامية ومحافظة، وبين فواعل المكون البربري، ومعهم تيارات ديمقراطية ووسطية، الأمر الذي شكل صدعا جديدا في جسد الهوية الوطنية الهش.

وعشية الاحتفالات الرسمية والشعبية بعيد يناير المصادف لـ12 يناير من كل سنة، أعاد أنصار التيار السلفي التذكير بفتوى دينية أصدرها زعيمهم محمد علي فركوس، منذ عدة سنوات، تقضي بتحريم المظاهر الاحتفالية بالعيد المذكور، الأمر الذي حول شبكات التواصل الاجتماعي إلى ساحة عراك أيديولوجي بين الطرفين.

التيار السلفي على الخط

قررت الجزائر منذ عام 2017 ترسيم احتفالات عيد يناير واعتبار يوم الثاني عشر من الشهر عيدا وطنيا ويوما مدفوع الأجر للعمال، في إطار ما عرف خلال السنوات الأخيرة بتسوية ملف الهوية الوطنية، وإدراج الهوية الثقافية واللغوية الأمازيغية ‏كبعد مكوّن للشخصية الوطنية، فاتخذت منذ ذلك الوقت التظاهرات الاحتفالية طابعا رسميا وشعبيا.

أحدث دخول التيار السلفي على الخط موجة غليان غير مسبوقة في الجزائر، وأبان عن هشاشة التماسك الاجتماعي والثقافي في البلاد، وفتح المجال أمام ظهور تطرف آخر في الجانب المقابل، بعد ظهور ممارسات غير مسبوقة في مجال ازدراء الدين والنيل من قدسية المؤسسة المسجدية.

وذكر زعيم التيار السلفي المثير للجدل وأستاذ الشريعة في جامعة الجزائر محمد علي فركوس، في فتوى أصدرها عام 2006 وظلت تترد سنويا من طرف أنصاره في ومريديه، فيما يعرف بـ”في حكم الوجبات الخاصة بالأعياد البدعية”، أن “ربنا أبطل أعياد الجاهلية، وأبدل أهل الإسلامِ بها عيدينِ يجتمعون فيهما للذكرِ والصلاةِ وهما: عيدُ الفطرِ وعيد الأضحى، كما شرعَ الله لأهل الإسلام الاجتماعَ للعبادة وذكرِ الله يوم الجمعة ويوم عرفة وأيَامَ التشريق، أما عدا ذلك فلا يجوز الاحتفال به”، في إشارة إلى عيد يناير ورأس السنة الميلادية وغيرهما من الأعياد والمناسبات.

لدرء الفتنة، نفت مصادر محلية ما وقع ترويجه بشأن إطلاق موسيقى في أحد المساجد بمحافظة تيزي وزو تزامنا مع الاحتفالات

وما زال الرجل يثير الجدل في مختلف الأوساط الدينية والسياسية، بسبب تصريحاته وفتاويه، وقدرته على تعبئة أعداد معتبرة من الشباب في تياره. ورغم سكوته عمّا يعرف بـ”منكرات السلطة “، وتحريم الخروج على الحاكم وكل أشكال الاحتجاج السياسي على السلطة، لم يتوان في إصدار فتاوى دينية مثيرة، على غرار تحريم تناول “الزلابية” (حلوى تقليدية)، واحتفالات الأعياد والمناسبات.

وكانت أخطر الفتاوى التي أصدرها زعيم التيار السلفي في وقت سابق هي “تكفير منتسبي التيارات والمذاهب الإسلامية الأخرى، واعتبار التيار السلفي هو “الفرقة الناجية من النار”، مما أثار حينها موجة غضب كبيرة في أوساط تيار الإسلام السياسي وغير السياسي.

ويبدو أن الرجل لا يعير ردود الفعل وتأثير فتاويه على الاستقرار الاجتماعي والسياسي اهتماما، خاصة وأنها تهدد في بعض الأحيان الوحدة الوطنية وتعمق أزمة الهوية المستشرية. ورغم أن فتوى التكفير أخرجت وزارة الشؤون الدينية من صمتها، إلا أن فتوى يناير أحدثت أزمة مستجدة في المشهد الجزائري، خاصة وأنها تنطوي على روابط وامتدادات سياسية وأيديولوجية.

ولأن دوائر تترصد مثل هذه الفرص لتعميق الشرخ في المجتمع الجزائري، من خلال الدفع بالوضع إلى المزيد من التأزم، فقد ظهر في شكل رد فعل مباشر تسجيل على شبكات التواصل الاجتماعي، يظهر إطلاق موسيقى في أحد مساجد بلدة عين الحمام بمحافظة تيزي وزو، فثارت ثائرة قطاع عريض من الجزائريين، واستغل ذلك متنطعون لتوجيه تهم التكفير والخروج من الملة إلى ما وصفته إحدى الصفحات على موقع فيسبوك بـ”حاجة تيزي وزو إلى فتح جديد”، وأنه “يجب التحذير من سكان جهة معينة”، في تلميح إلى سكان تيزي وزو.

ولم يستبعد مصدر سياسي محلي أن “يكون أنصار حركة انفصال القبائل هم الواقفون وراء الحادثة المذكورة”، وأكد في تصريح صحافي أن “الواقعة حقيقية وقد تداولها سكان قرية آيت واعبان، ببلدة عين الحمام”.

أزمة الهوية

التيار السلفي يوظف الخصومات الأيديولوجية لصالحه

غير أن المراسل المحلي سفيان خشاش قدم رواية منافية لذلك في حديثه ، وأكد أنه “لا علاقة للموسيقى بالمسجد، وأن اللبس الذي أثار الجدل هو إبراز التسجيل للموسيقى مرفوقة بصور للمسجد المحاذي للقاعة التي كانت تحتضن احتفالية محلية في القرية”.

وأكد خشاش أنه “في بداية الأمر تم تداول ربط جهاز البث بأسلاك مع مكبرات الصوت في قبة المسجد، وبعدها اتضح أن الاحتفالية كانت مستقلة عن المسجد تماما، وأن المزج بين الموسيقى وصور المسجد هو الذي أعطى الانطباع بإهانة مقصودة لقدسيته”.

وبشأن سؤال حول مضمون الأغنية ذكر أن “الأغنية تقليدية من التراث الأمازيغي أعيد توزيعها وتلحينها من طرف عدة فنانين، وهي تردد في مناسبة يناير، ولا تحمل أية رسالة أيديولوجية أو سياسية كما تروج لذلك بعض الأطراف”.

وتطابقت رواية المتحدث مع روايات أخرى نقلتها مصادر محايدة، درءا لفتنة افتراضية أو حتى واقعية، بعدما وردت في سياق الفعل ورد الفعل بين فتوى زعيم السلفيين وبين إهانة المسجد، وهو ما أكده منشور لمدير الشؤون الدينية بمحافظة تيزي وزو عيسى بوعيشة.

وذكر فيه “بعد تداول شريط عبر مواقع التواصل الاجتماعي يتضمن بث أغان من مسجد قرية آيت واعبان (…)، وذلك تزامنا مع الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، نؤكد أن ما جاء في صفحة التواصل الاجتماعي غير صحيح، وأن الأغاني مصدرها مكبر الصوت الذي كان موضوعا فوق القاعة التابعة للجنة القرية، حيث أن المسجد يشهد ترميمات داخلية منذ عدة أشهر”.

التيار السلفي في الجزائر تلقى موجة من الانتقادات على خلفية الفتاوى التي يصدرها، خاصة تلك المتعلقة بتحريم احتفالات يناير، كونها تعمل على شق الصف الوطني وتزيد من تعقيد أزمة الهوية

وتلقى محمد علي فركوس موجة من الانتقادات على خلفية نوايا الفتاوى التي يصدرها أو يعمد أنصاره إلى ترديدها، خاصة تلك المتعلقة بتحريم عيد يناير واحتفالاته، كونها تعمل على شق الصف الوطني وتزيد من تعقيد أزمة الهوية التي يتم الاستثمار فيها سياسيا وأيديولوجيا من طرف جهات كثيرة.

وعوتب الرجل كثيرا، خاصة على ما وصفته صفحة في موقع فيسبوك بـ”سكوته على الظلم والقمع والتمييز والمحاباة والفقر، الذي يعاني منه المجتمع بشكل عام، بسبب ممارسات السلطة الفاشلة”، فضلا عن “تواطئه معها في ترويج فتاوى عدم الخروج عن الحاكم، وتحريم الاحتجاجات السياسية”.

ورغم الخلافات الداخلية في صفوف التيار السلفي الجزائري، بسبب عقدة الزعامة وتدخل القيادة المركزية عدة مرات لحسم الموقف بين المتنافسين عليها، إلا أنه لم يصدر أي تعليق على الفتاوى التي باتت مصدر قلق وانزعاج من طرف الوجوه المعروفة في التيار، مما يعطي الانطباع بتماسك هؤلاء في وجه ردود الفعل القوية في الشارع الجزائري، وتجاوز خلافاتهم حين يتعلق الأمر بالطرف الآخر.

كما تعد مدينة تيزي وزو وضواحيها من أكبر محافظات الجزائر احتواء للمساجد التي يديرها متطوعون ينحدرون من المدرسة الصوفية الرحمانية، مما يؤكد تشبع المنطقة بالبعد الروحي الإسلامي، رغم ما يشاع عنها من حملات تشويه وتهمة ازدراء الدين، بسبب تصرف بعض العناصر المتطرفة المحسوبة على ما يعرف بحركة “الماك” (حركة انفصال القبائل) التي يتزعمها فرحات مهني.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: