يشكل اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على صحرائه تحولا جيوسياسيا مهما في تثبيت حق جغرافي وسياسي واجتماعي تناضل الدبلوماسية المغربية لاستثماره واستكمال وحدة أراضي المغرب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من إسبانيا، والتي تخشى من إمكانية بروز دعم أميركي للرباط في هذا الملف، وكذلك الدفع نحو ترسيم الحدود البحرية على مستوى المحيط الأطلسي بأرخبيل الكناري.
تتسم العلاقات بين المغرب وإسبانيا في المجمل بالاستقرار والهدوء، لكن المراقبين يعتقدون أنها مشوبة بنوع من الحذر على وقع المتغيرات على الساحة الإقليمية والدولية، خاصة بعد اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء، ولاسيما توظيف هذا المعطى للمضي قدما في حل ملف مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين.
وتخضع مليلية وسبتة للسيادة الإسبانية منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهما المنطقتان الوحيدتان المتبقيتان لمدريد في أفريقيا. وقد مر المغرب بمراحل تاريخية طويلة من أجل استعادتهما، لكن الأمور لا تزال عالقة.
وظهرت إشارات مغربية مؤخرا تزامنت مع التطورات الخاصة بقضية الصحراء، والتي يمثل موقف إسبانيا منها أهمية كبيرة، وهو ما أشار إليه بعض الخبراء بأن الرباط قد تستخدم ورقة سبتة ومليلية للضغط على مدريد باتخاذ خطوة على غرار الولايات المتحدة والدول الأخرى في ما يتعلق بقضية الصحراء.
وكان رئيس الحكومة سعدالدين العثماني، قد قال في مقابلة مع قناة “الشرق”، في ديسمبر الماضي، إن “سبتة ومليلية من النقاط التي من الضروري أن يُفتح فيها النقاش، والجمود هو سيّد الموقف حالياً”. وأكد أنّ هذا الملفّ “معلّق منذ ستّة قرون، لكنّه سيفتح في يوم ما ويجب أولا أن ننهي قضية الصحراء فهي الأولوية الآن، وقضية سبتة ومليلية سيأتي زمانها”.
قضية مصيرية
الأوساط السياسية في المغرب تعتبر أن ملف سبتة ومليلية قضية مصيرية تماما مثل قضية الصحراء، وأن الدولة ماضية في مساعيها من أجل حلها بشكل نهائي.
ويؤكد نبيل الأندلوسي، نائب رئيس لجنة الخارجية والحدود والدفاع الوطني والمناطق المغربية المحتلة بمجلس المستشارين، أن سبتة ومليلية بالنسبة إلى المغرب والمغاربة، رسميا وشعبيا، قضية مدينتين محتلتين من الدولة الإسبانية، وهذا إرث من المرحلة الاستعمارية التي خلفت العديد من المآسي والآلام، ومنها تداعيات قصف شمال المغرب بالغازات السامة.
ورأى في تصريح لـه، أن الحكومة مدعوة لطرح الملف على المستوى الرسمي في علاقاتها مع إسبانيا، والمطالبة بجبر الضرر الجماعي جراء ما اقترفته إسبانيا في حق منطقة الريف شمال المغرب.
ويبدو أن النجاح الدبلوماسي للمغرب في قضية الصحراء بعد اعتراف الولايات المتحدة بسيادته على أقاليمه الجنوبية سيجر حلفاء واشنطن إلى تأييد الموقف المغربي، وفق محمد لكريني أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ابن زهر، الذي قال لـه إن ذلك “يرمي إلى تفعيل مبادرة الحكم الذاتي، لكن في مقابل ذلك لا ننسى أن هذا النزاع الذي عمّر طويلا لم يحسم بعد، وبذلك لا يزال هناك عمل كثير ينتظر الدبلوماسية المغربية”.
وتوترت العلاقة بين المغرب وإسبانيا مؤخرا عقب تصريحات العثماني بشأن سبتة ومليلية، واستدعت الخارجية الإسبانية في الحادي والعشرين من ديسمبر الماضي سفيرة المغرب في مدريد، كريمة بنيعيش، لطلب “إيضاحات” حول الموضوع، حيث يأتي ذلك في وقت حساس بالنسبة إلى العلاقات بين الدولتين لاسيما بسبب قضية الصحراء.
وكانت بنيعيش قد أكدت خلال استدعائها من قبل الخارجية الإسبانية، أن موقف الرباط من سبتة ومليلية لم يتغير باعتبارهما مدينتين محتلتين.
ويلفت المراقبون إلى أن الرباط، من خلال تصريحات العثماني، بعثت برسالة واضحة إلى مدريد بخصوص محاولاتها التشويش على الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، مفادها أن هناك ملفات عالقة بين الدولتين يجب أن تفتح، والتأكيد على أن سبتة ومليلية والجزر المحتلة هي مغربية وإن استمر الاحتلال بها عقودا وقرونا لأن الحق في السيادة واسترجاع المناطق المحتلة لا يتساقط بالتقادم.
وفي رد على الموقف المغربي، خرجت مارغريتا روبلز، وزيرة الدفاع الإسبانية، للإعلام لتؤكد أن “مدينتي سبتة ومليلية إسبانيتان بالكامل، تماما مثل مدريد أو سيوداد أو أية مدينة إسبانية أخرى”، ورفضت فتح أي نقاش مع المغرب بخصوص هذا الملف الذي اعتبرته محسوما بالنسبة إلى مدريد.
وأثارت تصريحات العثماني عداء جماعات الضغط المعادية للمغرب خصوصا داخل إقليم الباسك والقوميين الكتالونيين والذين يستثمرون أي تغيرات سياسية لضرب استقرار العلاقات المغربية – الإسبانية. وطالبت الأصوات الراديكالية من اليمين المتطرف بإقحام الجيش الإسباني في معركة سبتة ومليلية، لتجيب وزيرة الدفاع أن هذا السيناريو غير مطروح.
ومرت العلاقة بين البلدين حول سبتة ومليلية بفترات شد وجذب. ففي العام 2002 دخل جنود مغاربة إلى جزيرة ليلى في المحيط الأطلسي، وهي غير مأهولة بالسكان وكانت تخضع للسيادة المغربية قبل أن تحتلها الإمبراطورية البريطانية ثم الإسبانية.
وبعد تدخل جنود إسبان، وقعت مناوشات وتصعيد سياسي بين مسؤولي البلدين عندما كان الحزب الشعبي المحافظ يقود الحكومة الإسبانية، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق خوسيه ماريا أثنار، ومنذ تلك الأزمة لم تشهد العلاقة بين البلدين أزمات طويلة الأمد.
ورقة ضغط
يرى مراقبون أن الاعتراف الأميركي خلخل قواعد الحسابات الأمنية والاستخباراتية داخل مراكز القرار الإسباني ومراكز البحوث التي تعتمدها الحكومة المركزية هناك، ومن آثاره إعلانها تأجيل الاجتماع رفيع المستوى الذي كان سيعقده البلدان في السابع عشر من ديسمبر الماضي بالعاصمة المغربية، وهو أول لقاء ثنائي كان سيجمع مدريد والرّباط منذ أكثر من خمس سنوات.
ويأخذ فرنانديز منديز، الباحث في معهد إلكانو الملكي، بعين الاعتبار القرار الأميركي الجديد بخصوص الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، إذ يمكن أن يؤثّر أيضًا على إسبانيا، وهو قرارٌ ستكون له تداعيات إقليمية خطيرة، وقد يؤثر على المطالبات الإقليمية للمغرب بشأن مدينتي سبتة ومليلية.
وهناك داخل الأوساط السياسية الإسبانية من يرى أن على مدريد الذهاب في طريق واشنطن والاعتراف بالسيادة المغربية على أقاليم الصحراء بهدف تحقيق نوع من التوازن في العلاقات الثنائية، والمحافظة على مصالحها التجارية والاقتصادية والأمنية والمساهمة في استقرار غرب البحر الأبيض المتوسط.
ويسود دوائر صنع القرار الإسباني قلق من الدعم الأميركي للمغرب في سيادته على الصحراء بعد تأكيدات رئيس الحكومة على أن المغرب سيفتح ملف سبتة ومليلية والمطالبة باستقلالهما، وقد أكد نوفل بوعمري، المحامي والباحث في شؤون الصحراء، أن إسبانيا على المستوى السياسي والحكومي وضعها هش جدا، خاصة وأن حزب بوديموس الإسباني اليساري يحاول في كل مرة تعكير العلاقة المغربية – الإسبانية وجرها نحو الاصطدام.
وقال بوعمري له إن “إسبانيا فوجئت بالموقف الأميركي الداعم لمغربية الصحراء، لكن ما يهم اليوم هو أن البلدين طويا صفحة التشنج الذي حدث لأنه ليس من مصلحة أي طرف أن يدخل في أزمة دبلوماسية مع الآخر”.
ويساند لكريني رأي بوعمري، ويرى أن إسبانيا متخوفة بعد الخطوة الأميركية لأنها تعلم تماما أنه بعد حل وطي ملف الصحراء سينكب المغرب وسيرمي بكل ثقله من أجل استعادة سبتة ومليلية المحتلتين.
وأوضحت مصادر دبلوماسية أن العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا، رغم تأرجحها بين التوتر والاستقرار، إلا أنها ستبقى محافظة على توازناتها الكبرى لأسباب موضوعية تتعلق بالمصالح المتبادلة، موضّحة أن الرباط تستثمر كل إمكانياتها الدبلوماسية والاقتصادية وموقع البلاد الجيوستراتيجي لحماية مصالحها.
وفي ظل السياقات الجديدة التي تطغى على الساحة الدولية، يرجح منديز بروز مواقف متضاربة داخل الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير على أساس فكرة عدم وضع سوابق يمكن أن تؤدي إلى استخدام القوة من قبل بعض الدّول للحصول على الأراضي المتنازع عليها، ومن ثم الاعتراف بها من قبل القوى الدولية.
ويعتبر لكريني، أنه بالنسبة إلى المسؤولين الإسبان ممن يتحدثون عن كون ملف سبتة ومليلية محسوم، وبأنهما مدينتين إسبانيتين، فالسؤال الذي يجب أن يوجه لهم وبذات المنطق والاستدلال، هو هل يمكن اعتبار جبل طارق منطقة إنجليزية ولا يمكن فتح حوار بشأنها، أم أنهم يجيزون لأنفسهم مطالبة إنجلترا بجبل طارق، ويتضايقون من مطالبة المغرب بمدنه وجزره المحتلة؟ وقال إنه “منطق لا يستقيم”.