دونالد ترامب رئيس مثير للجدل داخل الولايات المتحدة وخارجها بالنظر إلى تصريحاته الفوضوية وشخصيته الأنانية وسياساته العبثية والتي أحدثت انقساما داخل المجتمع الأميركي ولدى الرأي العام الدولي وخاصة من حلفاء بلاده، والآن وبينما تقترب فترة رئاسته الأولى والأخيرة من نهايتها غير المتّزنة، زاد من فصول اللغط في سجله السياسي القصير بعد أن أجمع معظم المتابعين على أن تحريض أنصاره لمهاجمة أبرز رموز الجمهورية هز صورة الديمقراطية الأميركية.
حرك اقتحام أنصار الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب مبنى الكابيتول خلال جلسة للكونغرس للمصادقة على فوز جو بايدن بالرئاسة مشاعر الدهشة والصدمة بين العديد من الأميركيين وفي العالم نتيجة الفوضى غير المسبوقة وأعمال العنف التي رافقتها ضد أبرز رموز الديمقراطية الأميركية.
وحملت مواقف المتابعين والخصوم السياسيين لترامب وحتى الحزب الجمهوري انطباعات سيئة عن الرئيس الممزوجة بين التهور والمشاكسة، فهذا الرئيس، الذي يرفض إعلان هزيمته، كان من أكثر الشخصيات إثارة للجدل على امتداد أربع سنوات.
واعتاد العالم على رؤية الدبلوماسيين الأميركيين يهرعون لإصدار بيانات تنديد عند قيام مجموعة أنصار للسلطة باقتحام برلمان في العالم للمطالبة بإلغاء نتائج انتخابات، لكن مع الفوضى التي عمت مبنى الكابيتول الأربعاء الماضي، انقلبت الأدوار وأصدرت عواصم العالم هذه المرة دعوات إلى الهدوء.
وهذا الوضع يشكل مفارقة لبلد يتغنى منذ أكثر من قرن وعند قيام أي محنة أو أزمة بميزات نظامه الديمقراطي الذي وصفه الرئيس السابق رونالد ريغن بأنه “مدينة مشعة على تلة”.
تدنيس الديمقراطية
في سابقة خطيرة بالحياة السياسية الأميركية، شهدت واشنطن الأربعاء الماضي مواجهات بين قوات الأمن ومحتجين من أنصار ترامب اقتحموا مبنى الكونغرس، أسفرت عن مقتل 4 أشخاص واعتقال 52 آخرين.
ويشير المؤرخون إلى أنها المرة الأولى التي يتم فيها اقتحام الكونغرس منذ العام 1814 عندما أحرقه البريطانيون خلال حرب 1812. ولأكثر من عقدين، جرت الجلسات المشتركة للكونغرس بهدوء، وهي إجراء شكلي تتم فيه المصادقة رسميا على الفائز في الانتخابات، لكن ترامب حض أعضاء الحزب الجمهوري على الاعتراض على النتيجة.
وجاء الاقتحام أثناء انعقاد جلسة للكونغرس، للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، وتأكيد اسم الرئيس الفائز ونائبه. وأدت الأحداث إلى تعليق اجتماع أعضاء الكونغرس لنحو ست ساعات، قبل استئنافه لاحقا، فيما انتشرت قوات من الحرس الوطني لوقف الاضطرابات وفرض حظر تجوال ليلي بواشنطن.
وبعد المصادقة، أصدر البيت الأبيض على الفور بيانا من ترامب تعهد فيه “بانتقال منظم” للسلطة في العشرين من يناير، وهو اليوم الذي يؤدي فيه بايدن اليمين لرئاسة الولايات المتحدة.
وكان الهجوم على مبنى الكابيتول تصعيدا للأحداث إلى ذروتها بعد أشهر من الخطاب التصعيدي المفعم بالخلاف حول انتخابات الثالث من نوفمبر الماضي، حيث أدلى الرئيس الجمهوري مرارا بادعاءات كاذبة حول حدوث تلاعب وتزوير لدرجة أنه اتهم بسرقة فوزه في الانتخابات وحث أنصاره على مساعدته في تغيير نتيجة الانتخابات.
وأجمع المراقبون على أن العنف في مبنى الكابيتول سيكون نقطة سوداء في تاريخ الديمقراطية الأميركية، وصور المنتقدون ترامب بمن فيهم كبار الديمقراطيين وأعضاء سابقون في إدارته باعتباره خطرا على الديمقراطية، وأنه لطالما كان يميل للحكم الاستبدادي.
واعتبر دانيال فينكلستين الكاتب بصحيفة التايمز البريطانية أن ترامب دنس هذا التقليد الأميركي بالتنازل السلس عن السلطة وألحق به العار وسيكون إرثه وأنه أخفق في التنازل عن منصبه طوعا وبكياسة وكرامة وشجع أعمال عنف بدلا من محاولة إخمادها، وجاء مقطع الفيديو الساعي إلى تهدئة المحتجين بعد فوات الأوان.
وقبل اقتحام مبنى الكابيتول، كان ميتش مكونيل، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الجمهوري، قد أدلى بكلمة رائعة، وذكر بوضوح أن الانتخابات الرئاسية لم تُسرق وأن السباق الانتخابي لم يكن متقاربا.
تاريخيا حصلت حادثة أسست لعرف قديم في انتقال السلطة، ففي العام 1797 لم يوجد ما يلزم جورج واشنطن بترك منصبه بعد فترتين كرئيس، حيث لم يتم التصديق في ذلك الوقت على التعديل الثاني والعشرين الذي ينص على تولي الرئيس الحكم لفترتين حتى عام 1951، لكنه كان مصمما على أنه لن يكون “الملك” الذي اتهمه منتقدوه بأنه يتطلع إلى أن يكون.
وبعد أكثر من مئتي عام من تلك الواقعة، لا يزال هذا القرار يعتبر أحد أعظم أعمال الرئيس واشنطن وأحد أهم الأعمال في تأسيس البلاد كديمقراطية دستورية.
ويؤكد نك ألين الكاتب في صحيفة ديلي تلغراف البريطانية أن صور الحشود الغاضبة التي تقتحم مبنى الكابيتول الأميركي ستلوث إلى الأبد إرث دونالد ترامب وتمثل واحدة من أحلك اللحظات في التاريخ السياسي الحديث للولايات المتحدة.
وفي حين أن أحداثا مثل تنصيب رئيس جديد تنطوي على تخطيط أمني تفصيلي من جانب أجهزة أمنية عديدة، فقد قال المسؤولون الأميركيون إن التخطيط كان أقل بكثير لمهمة حماية الجلسة المشتركة لمجلسي الكونغرس للمصادقة على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020.
ووصف ألين ما حدث بالقول إنه “بينما تسلق أنصار ترامب جدران المعقل المقدس للديمقراطية الأميركية أصيب العديد من الأميركيين الذين كانوا يشاهدون على شاشات التلفزيون في جميع أنحاء البلاد بالصدمة والفزع والاشمئزاز”، لافتا إلى أن “الولايات المتحدة المنقسمة بشدة ستجد التعافي من هذه الانقسامات أمرا عسيرا ومنهكا”.
وبالنسبة للكثيرين بدا الأمر وكأنه فتنة، ومحاولة انقلاب، وأخفق ترامب في إيقافها، بل وشجعها، ويضيف ألين أنه من الصعب أن تتعافى العلاقة بين الرئيس والحزب الجمهوري.
وصمة عار
عدم اعتراف ترامب بفشله في اتخاذ دور القيادة والذي أكده مرة أخرى بتحريضه لأنصاره على العنف شكل أحدث ضربة لسمعته المتراجعة أصلا في جميع أنحاء العالم بعد اتباعه لمبدأ “أميركا أولا” وإهاناته المتكررة لخصومه في الداخل والخارج، وبالتالي فهو لم يكن أهلا لممارسة الديمقراطية وترك اسمه في سجل التاريخ الأميركي.
وتعرض ترامب لانتقادات لاذعة من الجميع، فالسناتور ميت رومني، أحد أكبر منتقدي ترامب في الحزب الجمهوري، رد على ما أقدم عليه بالتأكيد على أن أفضل طريقة لاحترام الناخبين هي “بقول الحقيقة لهم”. وقال “أولئك الذين يستمرون في دعم هذه المناورة الخطيرة سيُعتبرون إلى الأبد متواطئين في هجوم غير مسبوق على نظامنا الديمقراطي”.
أما زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر المرجح أن يصبح زعيم الأكثرية في المجلس بعد انتخابات الثلاثاء الماضي، فقد اعتبر أعمال العنف بمثابة “محاولة انقلاب”. وقال “إنها ستدخل التاريخ الأميركي على غرار الهجوم الياباني على بيرل هاربور فهذا الحشد في جزء كبير منه صنيعة ترامب، حرضته كلماته وأكاذيبه وأن العار سيلحق به”.
ولم تعد هذه الصورة موضع إجماع منذ وقت طويل، لكن بعد أربع سنوات خالف فيها ترامب كل المعايير، كانت بضع ساعات من الفوضى والعنف كافية لتفقد الولايات المتحدة مكانتها تماما وتبدو ديمقراطيتها هشة كما في سائر الدول التي كانت تنتقدها.
وحملت الأحداث الرئيس السابق جورج بوش على تشبيه الأحداث بالوضع في “جمهورية موز”، منتقدا زملائه الجمهوريين لتأجيجهم “العصيان”، بينما قال الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما إن أعمال العنف مخزية لكنها لم تكن مفاجئة.
وكمثال على ذلك أثناء مراسم قبول ترشيح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة حينما قال ترامب “دخلت الساحة السياسية حتى لا يتمكن القوي بعد الآن من التعدي على الناس الذين لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم ولا أحد يعرف النظام أكثر مني ولهذا السبب أستطيع أنا وحدي أن أصلحه”.