متى تتحوّل المعركة ضد الفساد في تونس إلى مشروع وطني؟

مباركي

ملف محاربة الفساد في تونس اتخذ منذ الثورة نسقا ضبابيا وظل شعارا تردده جميع الحكومات المتتالية وتورده ضمن برامجها المقدمة، لكن تطبيقه محدود ويعتمد على المناورة السياسية أكثر منه خيارا استراتيجيا.

بدا جليّا بعد عشر سنوات أن المعركة ضد الفساد في تونس لم تغادر مربّع البروباغندا والاستعراض السياسي الذي رفعته جلّ الأحزاب والحكومات المتعاقبة، ليبقى السجال حولها مركزا حول مجموعة من الأسئلة المحورية: هل توجد إرادة فعلية لخوض هذه المعركة باقتدار بناء على ما تقتضيه مصلحة تونس أولا، أم أن هناك حقول ألغام مزروعة تبدّد أي أمل للتحرك من أجل اجتثاث هذه الظاهرة من المنبع؟ ولمَ لا تتحول هذه المعركة إلى “أم القضايا” وتتحول مشروعا وطنيا جامعا طالما أن عائداته ستوفر بديلا كافيا للنهوض بالاقتصاد ودعم التنمية الاجتماعية وغياب التوازن بين الجهات؟

وتفتح هذه الأسئلة، على أهميتها، الباب لتأويلات عديدة وسيناريوهات يمكن أن تعالج بها أزمة الفساد، التي حيّرت التونسيين المدركين لخطورة الظاهرة وتغوّلها أكثر من أي وقت مضى، والواعين بأن الطريق للقضاء عليها لا يأخذ مساره الصحيح، بدءا بتشخيصها والوقوف على منهجية الفاعلين فيها وليس انتهاء عند الآليات والأساليب المتبعة لمعالجتها.

ممدوح عزالدين: تونس تحتاج إلى انتقال اقتصادي يوازي الانتقال الديمقراطي

في كل مرة تبرز فيها قضية ما مرتبطة بالفساد في تونس إلا وتتعالى الأصوات المنادية بفتح الملفات والتنبيه إلى الدور الموكول للجهاز القضائي بأن يضطلع بدوره على أكمل وجه، لكن سرعان ما تطفو إلى السطح موجة جديدة من الأحداث تبدّد أي أمل في أن هذه المعركة بدأت تأخذ طريقها الصحيح.

وفسّر المحلل والخبير في الشؤون السياسية منذر ثابت، لماذا تأخرت المعركة الفعلية للقضاء على الفساد في تونس، بأن مقاومة هذه الظاهرة مرتبطة بتغيير التشريعات ونظام الحوكمة. وقال ثابت، إن “إشكالية الفساد يجب أن تواجه على أكثر من جبهة: أولا بتقليص التعامل بالعملة. ثانيا الابتعاد عن منطق المكاسرة وتصفية الحسابات، ذلك أن ملف الفساد اليوم بات حكرا على أطراف بعينها تستعمله للابتزاز وإدارة خصوماتها السياسية، وهو معطى هام يجب التفطن له. ثالثا ما يتعلق بالنص القانوني الذي لا يزال مبهما وفيه العديد من الثغرات التي عطلت دور الجهاز القضائي للاضطلاع بدوره الأساسي”.

وتزايد السجال أكثر صخبا هذه الأيام بعد حملة التوقيفات التي طالت رؤوسا كبيرة في أجهزة الدولة، بدءا بإقالة وزير البيئة والشؤون المالية مصطفى العروي وليس انتهاء عند العديد من المسؤولين الكبار الذين وقع توقفيهم في علاقة بملف شحنة النفايات المستوردة من إيطاليا، ليتعمق الجدل أكثر بالإعلان عن بطاقة إيداع بالسجن بحق رئيس حزب “قلب تونس” نبيل القروي.

والتقطت النائب عن حزب التيار الديمقراطي سامية عبو الإشارة مباشرة وعلقت على صفحتها بتدوينة قالت فيها إن “حملة الأيادي النظيفة للسادة القضاة الشرفاء انطلقت ولن تستطيع أيادي بعض النواب الوسخة تشويهها”.

ويتداول الحديث على نطاق واسع في تونس عن ارتهان بعض الأحزاب لرؤوس الأموال الكبرى، ممثلة في رجال أعمال بعينهم وبعض اللوبيات المتنفذة التي باتت تتحكم في المشهد السياسي ويتم تمرير القوانين وفقا لأجنداتها وبما يخدم مصالحها الضيقة.

بدا جليا أن مشروع الفساد في تونس يتغذّى على لوبيات وحيتان كبرى باتت تتحكم في مفاصل الاقتصاد بطريقة فجة بدّدت كل أمل لنهوض الدولة، لكن ذلك لا يمنع من بروز حملات مندّدة يعكسها تعالي الأصوات المنادية باجتثاث هذه الظاهرة من جذورها.

وتعالت في الفترة الأخيرة الأصوات الشعبية في تونس المنادية بالضرب بقبضة من حديد على الفاسدين والحيتان الكبيرة، التي باتت تتربّص باقتصاد الدولة وتتحكم في كل مفاصلها في كل مرة تقدم فيها إثباتات ملموسة عن ملفات فساد.

منذر ثابت: مقاومة الفساد مرتبطة بتغيير التشريعات ونظام الحوكمة

لكن الباحث في علم الاجتماع ممدوح عزالدين يرى أن هناك خلطا لا بد من توضيحه بخصوص الفساد الذي يربطه الكثيرون بالثورة. وقال في إن “بعض الأطراف تربط الفساد بالثورة، وهذا ليس صحيحا لأن الثورة أعطت حيزا كبيرا من التعبير وإخراج العديد من الظواهر التي كانت عبارة عن تابوهات”.

وأكد عزالدين أن الفساد يشمل كل مكامن المنظومة الحالية، وهو ما يسهم في تعطيل اشتغالها على نحو ما، مبيّنا أنه لا يوجد قطاع لا تشمله هذه الظاهرة، بدءا من الفساد القانوني، الذي فسّره الباحث الاجتماعي بغياب التشريعات والقوانين الكافية لردع الفاسدين، وحتى إن وجدت هذه التشريعات فإنه يتم التغافل عن تطبيقها. وقدم مثالا على ذلك بالباب الثامن من الدستور المتعلق بالجماعات المحلية، الذي لم يتم تفعيله إلى حد الآن.

وتساءلت أوساط سياسية تونسية عن مدى جدية وصرامة الحملة ضد الفساد التي يقودها رئيس الحكومة هشام المشيشي، وهل هي استمرار لفزاعة ترفعها الحكومات المتتالية في كل مرة يكشف فيها النقاب وتخرج فيها الإثباتات عن تورط هذا المسؤول أو ذاك في ملف ما؟

وفي تونس اتخذ ملف محاربة الفساد منذ الثورة نسقا ضبابيا وظل شعارا تردده جميع الحكومات المتتالية وتورده ضمن برامجها المقدمة، ومن ذلك حكومة يوسف الشاهد التي اختارت لنفسها اسم “حكومة حرب”، في إشارة إلى الحرب على الفساد بأشكاله المتعددة لكنها انتهت إلى نتائج جزئية.

ويرى ثابت أن معركة الفساد لا يجب أن تخاض بمنطق المحاصصة والتشفي بل يفترض أن تكون لها مؤيداتها وأدواتها وخصوصا على المستوى التشريعي، وبخلاف ذلك يؤكد ثابت أن تونس ما زالت سوف تخسر الكثير وخصوصا على مستوى انكماش المناخ الاستثماري.

وتوصف المعركة على الفساد في تونس بكونها لا تتعدى حدود الشعار المرفوع في كل مرة يكشف فيها المستور عن ملف ما يتعلق بإحدى الشخصيات الوازنة وسرعان ما تنطفئ الحماسة، ورغم اعتراف الفاعلين السياسيين أنفسهم أحيانا في كل حواراتهم التلفزيونية بأن هناك ملفات فساد كبيرة يجب على القضاء أن يتحرك لفتحها.

تعالت في الفترة الأخيرة الأصوات الشعبية في تونس المنادية بالضرب بقبضة من حديد على الفاسدين والحيتان الكبيرة، التي باتت تتربّص باقتصاد الدولة

وتساءل عزالدين عن أي نموذج مجتمعي نريد، هل نحن مع التشريعات والقوانين التي سنت لتطبق، وهل نريد فعلا دولة القانون والمؤسسات، ولا بد من تطويرها بنظام حوكمة وإصلاح حقيقي أم نبقى مرتهنين لطبقة الأوليغارشيا الممثلة في عدد محدود من رجال الأعمال الفاسدين المتحالفين مع الأحزاب؟

وخلص الباحث الاجتماعي عزالدين إلى التأكيد على أن تونس تحتاج إلى تغيير المنظومة الاقتصادية برمتها، مبديا تفاؤله بأنه رغم الهنات الحاصلة في التجربة الديمقراطية ورغم كل ما يقال عن المناكفات الحزبية والمشكلات السياسية التي تعصف بالبلاد إلا أن ذلك، وفق نظره، يعتبر عاملا إيجابيا لتأسيس تجربة ديمقراطية رائدة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: