برأ القضاء العسكري الجزائري ساحة المتهمين الرئيسيين في مؤامرة التخطيط والتآمر التي تم بموجبها سجن أكبر رموز الحلقة الضيقة في نظام الرئيس الجزائري الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة، ويتعلق الأمر بكل من شقيقه ومستشاره الشخصي سعيد بوتفليقة، وقائدي جهاز الاستخبارات الجنرالين محمد مدين، وعثمان طرطاق، إلى جانب رئيسة حزب العمال اليساري لويزة حنون.
وجاء قرار المحكمة العسكرية بعد قبول المحكمة العليا (أعلى هيئة قضائية في البلاد) قبول النقض الذي تقدم به فريق الدفاع خلال الأيام الماضية، وهو ما اعتبر آنذاك مؤشرا قويا على مراجعة المحكمة لقرارات الأحكام المتخذة في حق المتهمين والتي تراوحت بين 15 و20 عاما سجنا نافذا.
لكن سعيد بوتفليقة والجنرال طرطاق لم يتم إطلاق سراحهما، وهو ما يوحي بأنهما غير معنيين بصفقة الصلح بين السلطة الجديدة وبين صقور مرحلة التسعينات.
وبحسب مصدر قضائي، فإن سعيد بوتفليقة سيتم تحويله إلى سجن مدني في انتظار محاكمته في قضايا أخرى تتعلق بالفساد خلال 20 سنة من حكم شقيقه.
كما يبقى طرطاق قائد الاستخبارات بين 2015 و2019 في السجن العسكري لاتهامه في قضية تتعلق بمنصبه لم يتم الكشف عنها.
وحتى تاريخ استقالة الرئيس بوتفليقة في أبريل 2019 تحت ضغط الجيش والحراك الشعبي ضد النظام، كان شقيقه ومستشاره سعيد بوتفليقة (62 سنة) يعتبر الرجل القوي الفعلي في القصر الرئاسي دون سلطات دستورية، خصوصا بعد تدهور صحة شقيقه.
وازدادت قوته إلى درجة اعتباره “رئيسا ثانيا” بعد إصابة الرئيس بوتفليقة بجلطة دماغية في 2013 شلّت حركته وأفقدته القدرة على الكلام.
وتعتبر تبرئة المتهمين الأربعة من تهمتي التخطيط والتآمر على قيادة الجيش ومؤسسات الدولة تحولا لافتا في مسار تجاذبات أجنحة السلطة، وإيذانا بطيّ صفحة القائد السابق للجيش الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، الذي عمل منذ العام 2018 على تصفية خصومه في قيادة الجيش، واستغل حقبة الفراغ المؤسساتي بالبلاد من أجل الإطاحة برموز الحلقة الضيقة في نظام الرئيس المتنحي عبدالعزيز بوتفليقة.
ويبدو أن مسار المحاكمة سار وفق توقعات متابعين للشأن الجزائري، الذين ارتقبوا ذهاب الأجنحة المتصارعة إلى تسوية جديدة تتم بموجبها إقامة صلح بين الوجوه العسكرية الموصوفة بـ”الصقور” والمحسوبة على حقبة العشرية الدموية (1990 – 2000)، وبين السلطة الجديدة بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون، ومن خلفه القيادة العسكرية الجديدة ممثلة في قائد أركان الجيش الجنرال سعيد شنقريحة.
وإذا تمت تسوية المسألة بالنسبة إلى كل من وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزار، ومدير جهاز الاستخبارات السابق محمد مدين، حيث عاد الأول من منفاه الاختياري بإسبانيا، على متن طائرة رئاسية وتحت تشريفات رسمية، بعدما تمت مراجعة الحكم الأولي الغيابي (20 سنة سجنا نافذا) وإفراغ مذكرة التوقيف الدولية، على أن تتم إعادة محاكمته خلال الأيام القليلة المقبلة، فإن الثاني فقد استفاد من الإفراج وأخرج من السجن العسكري بالبليدة منذ عدة أشهر، بدعوى قضاء فترة نقاهة.
وسبق لرئيسة حزب العمال لويزة حنون أن صرّحت في أعقاب الإفراج عنها خلال الأشهر الماضية، بأن “الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، استغل فرصة الحراك الشعبي من أجل تصفية حساباته مع رموز النظام السابق، وأن التهم الموجهة لهم من طرف القضاء آنذاك مفبركة وتمت بإيعاز فوقي”.
وأضافت “الذي حصل من خلال حضورها في أحد تلك الاجتماعات التي وصفت بـ’المؤامرة’، هو مشاورات واتصالات أجراها سعيد بوتفليقة، بوصفه مستشارا لرئيس الجمهورية، مع شخصيات مختلفة من أجل بلورة حلّ للخروج من المأزق السياسي الذي أفرزته موجة الاحتجاجات السياسية التي اندلعت في فبراير 2019”.
ومع بقاء الرئيس المتنحي بعيدا عن المساءلة والحساب، حيث لا زال يقيم في اقامة الدولة الرئاسية ويحظى بكافة المزايا والامتيازات، فإن محيطه تتراكم عليه العقوبات القضائية بشكل يوحي بنهاية حتمية له من خارطة البلاد، حيث صدرت عدة أحكام ثقيلة بالسجن في حق من كانت توصف بابنته “الخفية” (السيدة مايا)، وكذلك في حق مدير الأمن السابق الجنرال عبدالغني هامل، ورؤساء وزراء ووزراء وقادة سياسيين.
ورغم الطابع المثير في التحول اللافت لمسار رموز السلطة، فان الشارع الجزائري لم يتفاجأ بالقرار القضائي الصادر، السبت، في المحكمة العسكرية بالبليدة، وعبّر عن موقفه بشعارات ظهرت الجمعة في بعض الاحتجاجات المعزولة، على غرار “طلقتو توفيق، جيبو نزار ما ناش حابسين يا أولاد بيجار (أطلقتم سراح توفيق، هاتوا نزار لن نتوقف يا أبناء بيجار)، وهو ما يترجم حالة القطيعة بينه وبين السلطة.
لكن ذلك لا يحجب المخاوف من عودة القبضة الحديدية إلى المشهد العام في البلاد، على اعتبار أن الجنرالين المتقاعدين يمثلان مدرسة خاصة في التعاطي مع الأزمات السياسية، وإن كانا سيكونان بعيدين عن أيّ وظيفة رسمية في الدولة، فإن تصوّراتهما ورادة في استلهامات السلطة الجديدة، وأن انحدارهما مما يعرف بتيار “الصقور” الاستئصاليين قد يلقي بظلاله على تعاطي السلطة مع أيّ احتجاجات سياسية في المستقبل القريب.