الانسحاب الأميركي الثاني يجعل العراق بؤرة ساخنة وقودها بيد إيران

Belbazi

مع أن كل الإشارات الأولية توحي بأن إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن لن تضع الملف العراقي على طاولة أولوياتها للأشهر الأولى، إلا أن ذلك يعني أيضا أن أي تهاون أميركي مع أذرع إيران في العراق يحوّل البلاد إلى بؤرة ساخنة يكون وقودها بيد طهران.

لا يبدو رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي سعيدا بما آلت إليه أمور الرئاسة الأميركية، فخصم إيران الشرس دونالد ترامب سيغادر البيت الأبيض في غضون أسابيع. وستُضاف إليه أيضا الخطة الموضوعة على جدول إدارة الرئيس المنتخب جو باين والتي تقضي بتقليص الوجود الأميركي في العراق بسبب الضغوط السياسية المحلية.

ومع أن خبرة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن بالملف العراقي كبيرة جدا، وسبق له أن أشرف عليه شخصيا عندما كان نائبا للرئيس باراك أوباما، إلا أن قيمة هذا الملف تراجعت كثيرا منذ الانسحاب العسكري من البلاد عام 2011.

ولا يرتفع في بغداد سقف التوقعات الخاصة بأداء إدارة بايدن في الملف العراقي كثيرا، لأن التقديرات تشير إلى أن الرئيس الجديد سينشغل ببضعة ملفات داخلية خانقة، أبرزها الركود الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا.

وسيخلق هذا مساحة لإيران ووكلائها وغيرهم لكسب المزيد من النفوذ في العراق.

وقد يجد أصدقاء الولايات المتحدة في العراق، ولاسيما رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، أنفسهم تحت الضغط، فيما لو أطلقت تسوية أميركية جديدة يد الميليشيات في هذا البلد وانسحب ما تبقى من القوات الأميركية، ما ينسف جميع المكاسب التي تحققت في عهد الرئيس دونالد ترامب؛ بما فيها الضغط على أذرع إيران في العراق من الميليشيات المارقة وفق وصف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.

تخفيض عدد القوات

آنا بورشفسكايا: من غير الواقعي أن يكون العراق على رأس جدول أعمال جو بايدن

بعد زيادة القوات الأميركية في العراق عام 2007، خفضت إدارات جورج بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب لاحقا عدد القوات الأميركية، فيما عدا الاستثناء الذي حدث عندما أجبرت إدارة أوباما على عكس مسار انسحابها عام 2011 بعد صعود تنظيم داعش.

ويواجه بايدن ضغوطًا طويلة الأمد من الجناح اليساري للحزب الديمقراطي لإلغاء الأولوية للعراق كهدف من أهداف السياسة الخارجية، والرئيس المنتخب نفسه لديه تاريخ كان يدعو فيه الولايات المتحدة إلى تقليص وجودها في العراق، وعلى الأخص عندما خدم نائبا للرئيس. وبالمثل، فإن القيادة المركزية الأميركية لديها هدف معلن يتمثل في تقليص الوجود الأميركي في العراق بحلول عام 2023، خلال فترة بايدن.

ويركز برنامج السياسة الخارجية الحالي لبايدن على قضايا أخرى مثل المنافسة مع الصين، وإعادة العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين في الناتو والاتحاد الأوروبي، ومعالجة قضايا المناخ كأهداف أكثر أهمية للسياسة الخارجية. كما أن العراق لا يظهر حتى في خطة السياسة الخارجية المنشورة لبايدن، والتي تشير بشكل غير مباشر فقط إلى القضية بالقول إن الإدارة تنوي “إنهاء الحروب إلى الأبد”.

إلا أن مراقبين يرون، مع اقتراب موعد تنصيب بايدن في العشرين من يناير القادم، أن نهج إدارته تجاه العراق لا يزال غير مؤكد. ففي التصريحات العلنية التي أدلى بها حتى الآن، لم يذكر الشيء الكثير عن العراق باستثناء التعهدات بإنهاء “الحروب الأبدية” وسحب القوات الأميركية من الشرق الأوسط مع الإقرار بضرورة إبقاء بعض القوات نظراً للتهديد الإرهابي في سوريا والعراق.

وتقول آنا بورشفسكايا الزميلة في معهد واشنطن، “سيكون من غير الواقعي توقع أن يكون العراق على رأس جدول أعمال بايدن نظراً للأولويات الأميركية المحلية المهيمنة ورأس المال السياسي المحدود بشكل عام عندما يتعلق الأمر بالعراق”.

ومع ذلك، يرى بايدن وأنتوني بلينكين، الذي اختاره الرئيس الأميركي المنتخب وزيراً للخارجية ووُصف بأنه “أقرب مستشاريه وأكثرهم ثقة”، أن روسيا والصين تندرجان ضمن أولويات السياسة الخارجية، ولذلك لديهما فرصة لتبنّي نظرة إستراتيجية طويلة تجاه العراق.

واستمرار السياسة الخارجية الأميركية في التحوّل نحو المنافسة بين القوى العظمى، لن يؤدي إلى دعم الأمن والديمقراطية في العراق وإلى كبح المطامع الإيرانية فحسب، بل إلى الحد من طموحات روسيا والصين أيضاً في هذا البلد.

وسبق أن أصدر البرلمان العراقي قرارا تحت ضغط القوى الممثلة لأحزاب وميليشيات إيران، في يناير 2020 يطالب العراق بطرد جميع القوات الأجنبية، وهو قرار أشار توقيته في أعقاب القتل المستهدف للواء الإيراني قاسم سليماني في بغداد على يد الولايات المتحدة إلى أنه يستهدف الولايات المتحدة بشكل واضح.

ويقول الباحث الأمني في مركز ستراتفورد توماس أبي حنا، “ستكون لدى إدارة بايدن مساحة أكبر للتراجع لأنها لا تواجه نفس العوامل التي قيدت الإدارتين السابقتين، لكنها لن تنسحب تماما في محاولة للاحتفاظ ببعض النفوذ في البلاد”.

وأضاف أبي حنا “لقد انسحبت إدارة أوباما من العراق، لكن كان عليها التراجع عندما واجهت البلاد أزمة أمنية وجودية في 2014 من تنظيم داعش. ثم ساعدت إدارة ترامب العراق على إكمال حملة لاستعادة جميع الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، مع اتخاذ موقف عسكري أكثر عدوانية تجاه الميليشيات المدعومة من إيران في البلاد كجزء من حملة الضغط القصوى التي فرضتها على إيران”.

دولة ضعيفة

Thumbnail

يواجه بايدن وضعا مختلفا في العراق خصوصا بعد القضاء على تنظيم داعش، على عكس إدارة أوباما، حيث لم يعد داعش يمارس سيطرة إقليمية على أجزاء من العراق ولا تشكل مستوى التهديد الذي يتطلب وجودًا عسكريًا أميركيا أكبر.

وعلى النقيض من النهج العدواني لإدارة ترامب، أشار بايدن إلى أنه سيتخذ موقفًا عسكريًا أقل تصادمية تجاه الميليشيات المدعومة من إيران في العراق كجزء من سياسة أوسع للتقليل من التوترات مع طهران.

وتعني رؤية الولايات المتحدة للعراق كشريك إقليمي في مكافحة الإرهاب وقضايا أخرى أنها لن تنسحب بالكامل من البلاد.

وتتفهم إدارة بايدن المخاطر المحتملة لانسحاب أميركي كامل وستسعى إلى تجنب هذه المخاطر من خلال الحفاظ على وجود عسكري محدود. وفي غياب أزمة أمنية وجودية أخرى في العراق، من غير المرجح أن تعكس الولايات المتحدة مسارها بالكامل وتزيد من وجودها العسكري.

وتعد إيران القوة الخارجية التي لديها الحافز الأكبر والقدرة على توسيع قوتها ونفوذها في العراق، والتي ستكون قادرة على القيام به في ظل تضاؤل ​​الوجود الأميركي.

ولطالما دفعت الضرورات الجيوسياسية إيران إلى السعي لفرض المزيد من النفوذ في العراق، في حين أن روابطها السياسية والاقتصادية والأمنية الواسعة بالفعل في العراق قد وضعتها في موقع رئيسي للاستفادة من أي انسحاب أميركي.

توماس أبي حنا: ستكون لدى إدارة بايدن مساحة أكبر للتراجع عن الانسحاب من العراق

إلا أن أغلب العراقيين يرون في رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي شيئا من “القوة” التي لم يمتلكها رؤساء الحكومات السابقة في مواجهة أذرع إيران من الميليشيات، والأزمة المتصاعدة منذ أيام مع الميليشيات التي تهدد باستباحة الدولة وقصف مبنى السفارة الأميركية في بغداد، رسالة مفيدة لإدارة بايدة لتقديم الملف العراقي ضمن أولوياتها.

ويمنح قرب إيران من العراق ووجود أحزاب وميليشيات مسلحة تدين لها بالولاء، الحافز والقدرة على ممارسة طهران المزيد من الضغط في البلاد، وهو من ضمن أحد أهداف إيران الإستراتيجية الرئيسية لمنع العراق من أن يصبح جارا مستقلا وقويًا ومعادياً كما كان في عهد صدام حسين.

وتمنح هذه العوامل إيران ميزة عن القوى الإقليمية الأخرى مثل تركيا أو السعودية، التي لديها حوافز مختلفة لتوسيع نفوذها في العراق، لكنها تفتقر إلى المزايا التي تتمتع بها إيران.

وعلى الرغم من أنها لن تنسحب بالكامل، إلا أن تراجع الوجود الأميركي في العراق سيضعف نفوذها في البلاد، ويجعل من الصعب على الولايات المتحدة تحقيق أهداف سياسية مستقبلية إضافية في بغداد، مما سيساهم كذلك في استمرارية حالة عدم الاستقرار السياسي.

ويقول أبي حنا “تراجع الوجود الأميركي في العراق يعني أن بغداد ستبحث عن قوى خارجية أخرى للحصول على دعم اقتصادي وسياسي إضافي، مما يفتح الباب أمام اللاعبين الرئيسيين خارج الشرق الأوسط -مثل الصين وروسيا- لتوسيع نفوذهم في البلاد”.

وستسعى الجهات الفاعلة العراقية الأخرى أيضًا إلى ملء الفراغ الناجم عن تراجع النفوذ الأميركي، مما يخلق المزيد من نقاط الاحتكاك السياسي بين الجماعات المتنافسة في بيئة سياسية محلية منقسمة ومضطربة بالفعل. وهذا من شأنه أن يفاقم مشاكل العراق الاقتصادية.

ويجمع مراقبون على أن تؤدي التحركات الأميركية الملموسة لتقليص الوجود العسكري الأميركي إلى تشجيع الفصائل العراقية التي دعت إلى انسحاب أميركي كامل، وهذا التشجيع لفصائل معارضة للوجود الأميركي في البلاد سيجعل من الصعب على واشنطن تحقيق أهداف سياسية أخرى في العراق.

وسيتم تحفيز الفصائل العراقية المعادية للولايات المتحدة، بما في ذلك الميليشيات المدعومة من إيران، لتسريع هذا الانسحاب من خلال شن هجمات وزيادة تكلفة استمرار التدخل الأميركي في البلاد؛ وهي إستراتيجية رأوا أنها ناجحة في الفترة التي سبقت قرار انسحاب عام 2011.

وفي الأشهر المقبلة -كما يبدو- سيكون هناك صراع مع النفوذ الإيراني المتزايد في العراق والذي جعل البلاد نقطة ساخنة ستحتدم فيها التوترات الأميركية الإيرانية مرة أخرى. وهذا سبب كاف كي يجعل بايدن يفكر كثيرا قبل اتخاذ قرار انسحاب قوات بلاده من العراق.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: