زعيم البوليساريو يصطدم بجبهة داخلية هشة
لا شيء تغير في المشهد الداخلي بمخيمات صناعة الجحيم والموت، الواقعة غرب تندوف الجزائرية، منذ نصف قرن تقريبا، حتى عندما أعلنت عصابة المغتصب أنها في حل من اتفاق وقف إطلاق النار، فمن خبر مناورات “بوليساريو”، بتجلياتها الداخلية والخارجية، يسهل عليه تمييز مسرحياتها التي لا تنتهي، وهي التي تكتفي بتغيير أبطالها الثانويين، وتُبقي على واجهتها الفنية، كي لا يصعب عليها إخراج مشهد متكامل يمكن لسكان مخدرين أن يصدقوه، لتعطي مزيداً من الوقت لمصاصي الدماء، كي يستمروا في تجارتهم المربحة على حساب سكان حولوهم إلى حطب جهنم.
فما دأبت عليه عصابة الرابوني، طيلة كل هذه المدة، هو مجرد إنتاج للسيناريوهات نفسها، بالأساليب ذاتها، مع قليل من الحبكة الدرامية، واستمرار في نهج الارتزاق، بعقليات تتطور مع مرور الوقت، لتصبح أسلوب حياة ونموذجا رائدا في الكذب الصراح، والتلفيق الذي لم يسبقها فيه إلا أسيادها ببن عكنون.
راهن صناع “بوليساريو” على إبراهيم غالي واجهة يمكنها أن تجمع شمل عصابة فرقتها الصراعات المالية والقبلية، التي شغلته عنها مطاردة الحسناوات بمدريد والجزائر العاصمة، إذ لم يجد الوقت ليدخل في إحدى زوايا الصراع السياسي الحاصل منذ 1988، غير أنه فشل خلال أربع سنوات كاملة في الحفاظ حتى على ما كان يستميت سلفه في الحفاظ عليه، وظهرت التصدعات والانشقاقات، وظهر الفساد العلني، وتمردت القيادات، جماعات وفرادى، ليتجرع أكبر فشل في تاريخ قياديي “بوليساريو” في المؤتمر الأخير، بعد أن صوتت للتجديد له 15 في المائة فقط من أصل ألفي مؤتمر، والتي أبت إلا أن تفهمه بأنه مرشح الجزائريين وليس الصحراويين، قبل أن يتم قطع التيار الكهربائي، كما جرت العادة في كل مؤتمر من أجل استبدال صناديق الاقتراع، وعد الأوراق القادمة مباشرة من سكتور تندوف العسكري، من أجل ضمان استمرار شمولية جبهة تقدم زعماءها منقذين ورموز إجماع.
إلا أن الرهان القادم من الشرق استمر في حصاد الفشل حتى في قضايا التسيير الداخلي، فخرجت الدبابات والناقلات لتفريق المعتصمين والمتظاهرين، وحتى نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي، زُج بهم في السجون، ووزعت أموال المساعدات على شيوخ قبائل متطاحنة، أحرق بعضهم خيام البعض، وتحول المخيم إلى مرتع لمختلف الأسلحة اليدوية ومفرخة حية لتصدير الأفراد للجماعات الإرهابية بالساحل والصحراء.
إعلان اغويلي لحالة الحرب، وتخليه عن التزامات “بوليساريو” الدولية جاء أيضا وبالا على داعميه شرقاً وغرباً، فحتى وإن كانت الجزائر الرسمية لم تمل الرهان عليه، فإن دوائر ضيقة داخل الـ DSS لم تعد تثق فيه، ولا تدعمه، بل وذهبت إلى التفكير في بدائل له على شاكلة وزير دفاعه السابق المتمرد عليه عبد الله لحبيب البلال، والذي عاد من مستشفى الملكة صوفيا بإسبانيا لغاية يبدو أنها تتحقق رويدا رويدا، وتوسعت الهوة بين غالي والقواعد الشعبية التي فقدها بحماقته الأخيرة إثر إعلانه حرب “المائة بلاغ”، دون التفكير في عواقبها، ومدى قدرته على استعادة الوضع السابق.
وحتى وإن كانت قيادات، تُحسب سابقا على خصومه، قد سايرته في الكذبة وصعدت من خطابها، إلا أنها كانت ترمي من وراء ذلك إلى إحراجه مع مرور الوقت، وتطويقه بمجموعة من الوعود الكاذبة التي لن يستطيع تحقيقها، وتلك غاية خصومه. وقد تكون دوائر جزائرية وراء كل هذا التناطح الحاصل في مقدمة “بوليساريو”، فاستدعاء ولد البلال وسيد أحمد البطل لمقر الاستخبارات الجزائرية الأسبوع الماضي، ما هو إلا جزء من التحضير النهائي لجنازة مسار غالي على رأس هذه الحركة البعبع، فحتى نخب الجزائر السياسية والعسكرية، التي كانت مندفعة إلى حد التهور، منذ بداية الأزمة، بدأت اليوم تتراجع بخطوتين إلى الوراء، واحدة بفعل احتشام الاحتضان الشعبي الجزائري للموقف الرسمي، والأخرى لفشل “بوليساريو” وراعيتها في استثارة عواطف المجتمع الدولي، لإدانة خرق اتفاق إطلاق النار من قبل المغرب، الذي أمن مساندة الأمم المتحدة والدول العظمى قبل دق آخر مسمار في نعش عصابة الرابوني.
لقد استيقظ سكان المخيم أيضا على معطى جديد بالنسبة إليهم، فمع مرور ثلاثة أسابيع من البلاغات العسكرية الفارغة، تناقص الحماس الزائف، وتراجع الجموح الهادر الذي كانت قيادات الأمن تخطط من ورائه لرسم صورة مغايرة للمخيم، إلا أنها، وبغبائها المعتاد، فضحت جملة من الممارسات كانت تخفيها لسنوات، وعلى رأسها تجنيد الأطفال دون السن القانونية، ووجود كميات من السلاح غير المرخص له، بالإضافة إلى فشل الجبهة، طيلة ثلاثين سنة من السلام، في صناعة جيش، أو حتى الاحتفاظ بما كان موجودا لديها عشية وقف إطلاق النار، وغيرها من الممارسات التي أظهرت للجزائريين، قبل العالم، أنهم يدعمون مجموعات من الانتهازيين قطاع الطرق، واكتشفوا زيف التقارير التي كان يعدها ممثلهم بمركز الغزواني بالتواطؤ مع مسؤولي الأمن في النواحي العسكرية و قطاعات أخرى.
لم يكن الوضع في المخيمات أيضا مهيئا للتكيف مع اللعبة الجزائرية الجديدة، فموجات التحريض والتعبئة، وإن كانت جنت ثماراً ولو مؤقتا، إلا أنها قلبت الموازين في لحظة فاصلة، وأصبح المئات من الشباب الذين اندفعوا تحت الحماس المفتعل إلى الانضمام إلى مدارس الجبهة العسكرية، في حيرة من أمرهم، فبعد كل هذا الوقت لم يتم تدريبهم ولا حتى توزيع الزي العسكري عليهم، وتحولت المدارس إلى أشبه بالمخيمات الصيفية، وهو ما دفع باللواء اسماعلي، قائد عمليات قطاع تندوف، إلى محاولة تدارك الموقف عبر إقناع قيادته ببعث عدد من المتطوعين الجامعيين إلى مدرسة العقيد بن بولعيد للمشاة بأجنين بورزق، عله يخفف من الضغط الذي بدأ يلف الحبل حول عنق قيادات “بوليساريو”، غير أن هؤلاء العشرات من الشباب لن يصمدوا طويلا في تصديق الدعاية التحريضية للجبهة، ففي المخيم أسر وعائلات لها حاجياتها ومتطلباتها التي لن يلبيها رفاق اغويلي، ومع مرور الأيام، سيتضح العجز الفاضح لحركة تجني اليوم نتيجة ما زرعت من تجارة الوهم والوعود الكاذبة.