الجزائر: حتى لا تخطئ قيادة الجيش مرة أخرى

مشهد سياسي أكثر من معقد تعيشه الجزائر هذه الأيام، وهي على أبواب الذكرى الأولى للانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر2019. رئيس مريض، غائب عن البلد. وضع سياسي متشنج في الداخل وعلى الحدود، مقرونة مع حالة استقطاب سياسي داخلي كبير، نتيجة السياسات الخاطئة في التعامل مع ملف الحراك الشعبي سيطر عليه منظار أمني صرف، بما أدى إليه من اعتقالات للشباب وغلق مبالغ فيه للساحة الإعلامية، لم يشهده البلد في أسوأ الظروف، كما بين ذلك مسلسل حجب عدة مواقع إعلامية إلكترونية الأسبوع الماضي. تم التراجع عنه لاحقا – باستثناء حالة موقع القصبة تريبون للصحافي السجين، خالد درارني -من دون تفسير لقرار الحجب ولا لقرار التراجع، ومن دون معرفة من كان وراءه، حتى الآن، وكأن من اتخذه يريد تأكيد ما جاء في بيان البرلمان الأوروبي حول الوضع الحقوقي في البلد.
محطات أدت عمليا إلى خلق حالة غموض سياسي لم تشهدها الجزائر منذ الاستقلال، جعلت الجزائريين يتوجهون صوب قيادة الجيش صاحبة الحل والربط في مثل هذه الحالات. على خلفية حوار، ساكت حتى الآن، يحاول إيجاد الحلول لهذا المأزق السياسي، الذي لا يملك البلد مؤسسات للنقاش حوله، وإيجاد المخرج له. نتيجة العطل الواضح لكل المؤسسات السياسية، سواء تعلق الأمر برئاسة الجمهورية، المجلس الدستوري أو البرلمان أو حتى الأحزاب في أغلبيتها، ما يزيد في تغول الشائعة السياسية، إلى حد التأثير السلبي في نفسية الجزائريين، في زمن كورونا والحجر الصحي بكل تداعياته الاقتصادية والاجتماعية الرهيبة.
نقاشات تتراوح بين حل الانتخابات المسبقة – إذا تأكد فعلا عجز الرئيس عن أداء مهامه، كما توحي بذلك سفرته الطويلة إلى ألمانيا، حتى إن عاد هذه الأيام، كما جاء في بيان الرئاسة الأخير، والحلول الأخرى التي تحاول القفز على الانتخابات الرئاسية المسبقة، بالذهاب إلى نوع من القيادة المعينة، بما تحيل إليه من مرحلة انتقالية وصلت عند البعض في دقتها إلى حد اقتراح قيادة جماعية تقليدية من العقلاء، كما كان يفعل أجدادنا في الماضي، تجماعات، كدليل إضافي على أزمة الحداثة السياسية التي يتخبط فيها النظام السياسي الجزائري ونخبه.
انتخابات رئاسية مسبقة زاد في تعقيدها الغطاء الدستوري المعطل، في بلد يعيش بدستورين، واحد ساري النفاذ، والأخر ينتظر مصادقة الرئيس الغائب. مرحلة انتقالية، لتنظيم الانتخابات لا تمنحها هذه الدساتير إلا فترة قصيرة جدا – 45 يوما يمكن أن تجدد لمرة واحدة فقط، اذا ثبت العجز النهائي للرئيس – لا تراعي تماما الوضع السياسي المعقد الحالي، التي لم تعد فيه هذه المدة كافية لفرز رئيس بعد انتخابات متفاوتة المصداقية، تحظى بحد أدنى من القبول الشعبي.. حالة لم تعشها الجزائر منذ الإعلان عن دخولها التعددية السياسة، بما فيها آخر الانتخابات التي صعد فيها تبون نفسه، زادت في منح الانتخابات تلك السمعة السيئة التي تعرفها شعبيا وحتى بين النخب، كوسيلة لم تكن على الدوام قادرة على حل إشكالات النظام السياسي، بل تحولت في الغالب إلى منتج لأزمات مستعصية، نتيجة التعامل معها كآلية فقط، وليس روحا وثقافة قبل كل شيء. ما يجعل الذهاب نحو انتخابات رئاسية مسبقة عملية معقدة وربما غير مقدور عليها، في الظرف الحالي، كما توحي بذلك بعض الأفكار، قد تكون وراءها مراكز قرار مهمة داخل النظام السياسي الجزائري – من بينها قيادة الجيش، أو جزء منها على الأقل – التي تفضل بالعكس الذهاب إلى «مرحلة انتقالية» غير محددة المعالم حتى الآن، كفسحة تعطيها لنفسها مراكز القرار هذه للتوافق على رجل المرحلة والإخراج القانوني والسياسي، الذي يتطلب فرزه، في وقت يتوجه فيه الجميع صوب قيادة الجيش -كما كان الحال دائما، لإيجاد المخرج المطلوب.

منطق التحولات الإيجابية التي يعيشها الجيش من الداخل، تؤهله ليكون على رأس المستفيدين كمؤسسة، من أي عملية انتقال سياسي سلس

قيادة جيش لم تعد كما كانت في السابق، لا يعرف عنها الجزائريون الكثير من المعطيات ولا عن مخططاتها وموازين القوى بين مراكزها ووجوهها الفاعلة. غطت عليها لوقت طويل شخصية قائد الأركان المتوفى الذي كان له دور كبير في فرض الخيارات التي تمت في محطة حساسة من تاريخ الجزائر السياسي، خلال سنة الحراك 2019، يمكن القول إنها كانت أحد أسباب الأزمة التي يتخبط فيها البلد حاليا. قيادة عسكرية حالية، تعكس إلى حد كبير التحولات، السوسيو- ديموغرافية النوعية التي يعرفها الجيش الجزائري، الأقرب لمنطق التحولات التي يعيشها المجتمع الجزائري ككل، على غرار طابعه الشاب والمؤهل، المساعد على الاحتراف العسكري، الذي يجعله بعيدا كاتجاه عام، عن الاهتمام بالممارسة السياسية، كما كانت تحصل في السابق، وهو ما قد يزيد في تعقيد المشهد السياسي إذا لم تنتبه القيادة العسكرية لهذا النقص كأن يفرض عليها القيام بدور سياسي لم تعد مؤهلة للقيام به، مقارنة بتجربتها القديمة. وهي تعيش حالة تحرش من الخارج، يتم بموجبها تقديم الجيش الجزائري كقوة عسكرية خرافية، للضغط عليه في هذا الظرف السياسي المعقد، لإجراء تغيير سريع في عقيدته العسكرية، تكون فرصة للانقضاض عليه أو توريطه في مغامرات عسكرية خارج الحدود، كما حصل في تجارب عربية معروفة.
منطق التحولات الإيجابية التي يعيشها الجيش من الداخل تؤهله لكي يكون على رأس المستفيدين كمؤسسة، من أي عملية انتقال سياسي سلس، كما يطالب بذلك الكثير من الجزائريين، منذ انطلاق الحراك الذي يعكس بدورة لحظة سياسية مهمة تمكنت فيها التحولات التي يعيشها المجتمع، منذ عقود، من التعبير عن نفسها بصدق على السطح السياسي. عكس المنطق السائد داخل النظام السياسي بمؤسساته المعطلة، الذي لا يمكن أن يكون مصدر حل لهذه الأزمة السياسية، كما يبينه البناء الحزبي والمؤسساتي الرسمي كل يوم.
فتح مجال الحريات وإشراك المواطنين بفتح الإعلام، والارتكاز على منطق التحولات الاجتماعية والثقافية الإيجابية التي عبر عنها الحراك الشعبي، وتلك الملاحظة داخل المؤسسة العسكرية، وهي تبتعد عن الشأن السياسي المباشر الذي سيحررها أكثر لكي تكرس جهودها للقيام بأدوارها الدستورية، هي بداية الحل لهذه الأزمة السياسية، حتى لا تخطئ القيادة العسكرية مرة أخرى في فرض حلول من بنات أفكار هذا النظام السياسي المأزوم، وتوازناته الشللية القاتلة، يتم تسويقها من داخل مؤسسات النظام نفسه الذي تحول إلى خطر على نفسه وعلى الجزائريين التواقين إلى بناء دولتهم الوطنية على أسس جديدة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: