ماكرون بلا حلفاء في حربه الثقافيّة على مسلمي فرنسا
«في النهاية لن نتذكر كلمات أعدائنا بل صمت أصدقائنا» (مارتن لوثر كينغ)
بعد أسابيع على إطلاقه حرباً ثقافيّة شعواء لمواجهة ما أسماه (التطرّف) لدى الأقليّة المسلمة في بلاده، يبدو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اليوم وكأنما تُرك وحيداً في واحدة من أخطر مساحات التماس الحضاريّ لعصرنا الرّاهن: الإسلام في الغرب. فبينما نجح بالفعل بإطلاق رهاب الإسلام (الإسلام -فوبيا) تنيناً جديداً يجمع ضده الفرنسيين الذين انقسموا طبقيّاً بعد تراجع الأوضاع المعيشيّة للأكثريّة من مواطنيه، سيّما بعد التأثيرات السلبيّة الحادة لفيروس كورونا على اقتصاد بلاده، فإنّه في الوقت ذاته أثار غضب كثيرين عبر ما يسمى العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب، فتعددت دعوات مقاطعة البضائع الفرنسيّة وسحبت من العرض لدى متاجر كبرى عربية عديدة، وتعرّض للتقريع العلني في خطابات بثت على الهواء مباشرة لقادة مسلمين من أنقرة إلى إسلام أباد، ناهيك عن العواصف المجلجلة على مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة المحليّة.
إلا أن أكثر ما لفت الأنظار في هذه الحرب كان ذلك الصمت المريب من قبل حلفاء فرنسا التّقليديين الذين توارى جلّهم عن الأنظار ولم نسمع لهم صوتاً، بل ووصفت باريس تغطية بعض قنوات هؤلاء الحلفاء التلفزيونيّة وصحفهم بالانحياز للطرف الآخر «والمشاركة في إضفاء شرعيّة على العنف والتطرّف» من خلال إبعاد اللّوم عن الجُناة الأفراد وتوجيهه إلى ظاهرة (إسلام – فوبيا) اعتبرت عريقة وراسخة في المجتمع الفرنسي.
وقد خصّ ماكرون المنافذ الإعلاميّة الناطقة بالإنكليزيّة بانتقادات حادّة خلال مقابلة له مع بيين سميث الصحافيّ الأمريكيّ المعروف أجريت قبل عشرة أيّام بشأن منهجيّة تعاطيها مع هجمات إرهاب نفّذها متطرفون إسلاميّون في بلاده. وكانت عدّة قنوات إعلاميّة أنغلوفونيّة كبرى ومنها صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانيّة المرموقة وموقع مجلّة «بوليتيكو» الأوروبي قد اضطرت تحت ضغوط شديدة إلى إزالة مواد نشرتها بشأن الأحداث في فرنسا إثر اتهامات بـ«مجافاة الحقيقة في نقل الوقائع وانعدام الدّقة المهنيّة».
أين توارى الحلفاء؟
طوال هذه الحلقة المروعة بأكملها من الحرب الثقافيّة الفرنسيّة ضدّ أقليّة من المواطنين والمقيمين (حوالي 6 ملايين نسمة) كانت باريس بأمسّ الحاجة إلى تضامن أصدقائها وحلفائها، سيما في مواجهة التصعيد الكلامي الرسمي والشعبي الآتي من الشرق، أين كانت الحكومة الألمانية مثلاً، الشريك الأقرب في الاتحاد الأوروبيّ؟ هل ظهرت أنغيلا ميركل على شاشة تلفزيونيّة واحدة لتدين نمط العنف الذي يتورط به فرنسيون ومهاجرون مسلمون ضد مواطنيهم؟ لم يحدث. هل تجرأ وزير ألماني على انتقاد القادة الأتراك والباكستانيين في مؤتمر صحافي؟ لم يحدث.
لقد اختارت ألمانيا الصمت وكأن ما يجرى داخل أراضي جارتها الأهم لا يعنيها من قريب أو بعيد. وبدا وكأن إعلامها – الوثيق الصلة بالطبقة السياسيّة الحاكمة في برلين – ملتزم بخطّ حكومته، فكانت كلمة التضامن الوحيدة التي نشرتها صحفها مع ماكرون لوزير حكوميّ من أنور قرقاش، مسؤول الخارجية الإماراتي، الذي نقلت عنه يوميّة (دي فليت) قوله إن على المسلمين «أن يستمعوا بعناية إلى ما قاله الرئيس ماكرون في خطابه. إنه لا يريد عزل المسلمين في الغرب، وهو محق تماماً».
الصّمت الألماني انسحب حكماً على بقيّة دول الاتحاد الأوروبيّ، وبيوت الإعلام فيها. وكان أكبر دعم حصل عليه ماكرون من زملائه القادة الأوروبيين مجرّد تغريدة يتيمة على موقع «تويتر» من توقيع مارك روت، رئيس الوزراء الهولندي الذي قال – مستخدماً عدداً أقل من الأحرف المسموح بها في التغريدة الواحدة – إنّ «هولندا تقف بحزم مع فرنسا ومن أجل القيم الجماعية للاتحاد الأوروبي». وفي الحقيقة لم تثر تلك التغريدة شهيّة أيّ من الزعماء الغربيين الآخرين لقول كلمة واحدة، ولو على سبيل المجاملة، بل إنّ جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، بدا مائلاً إلى جانب منتقدي حرب ماكرون. وعندما سُئل في مقابلة عن دفاع الرئيس الفرنسي بأحقية عرض الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمّد (صلّى الله عليه وسلّم) أجاب بأن «حرية التعبير لا يجب أن تخلو من الحدود».
بريطانياً، التزم رئيس الوزراء بوريس جونسون بدوره الصمت أيضاً، كما فريقه الحكوميّ بشأن الحرب الثقافيّة في فرنسا. وبدا أن لندن تفضّل خلال هذه المرحلة الصعبة اقتصادياً دفن رأسها في الرّمال وتجنّب تقديم دعم علنيّ لأيّ من الأطراف، خوفاً على العلاقات التجارية المستقبلية التي تحتاج المملكة المتحدّة بشدّة لنسجها في وقت قريب تعويضا لخسارتها المحتملة للشراكة التجاريّة مع دول القارّة، بعد الشروع في تنفيذ الخطوات الإجرائيّة لخيار (بريكست، أي قرار التخلّي عن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبيّ).
على الجانب الآخر من الأطلسي، لم تسمح معركة الانتخابات الرئاسيّة ترامب – بايدن لأيّ من الطرفين باتخاذ مواقف معمّقة حول الشؤون الخارجيّة، لكن توجهات الإعلام الأمريكي الليبرالي التي تعكس بشكل أو آخر مواقف مؤسسات السلطة – بما فيها أسماء كبيرة مثل «واشنطن بوست» و»الأسوشيتيد بريس» – كانت بشكل عام غير ودودة مع باريس، وعرضت برامج عدّة ونشرت مقالات وتحقيقات أثارت حفيظة السّفارة الفرنسيّة لدى الولايات المتحدة.
لماذا هذا التخلّي؟
جليّ أن العديد من الحكومات الغربيّة ترزح بسبب جائحة كوفيد – 19 تحت ضغوط اقتصاديّة وصحيّة وتعليميّة واجتماعيّة هائلة تدفعها لتجنّب فتح معارك إضافيّة مجانيّة لمجرّد دعم ماكرون – أو غيره – في بهلوانياته الخطرة بهذا الوقت تحديداً، خاصة أن معظم دول الغرب لديها أقلياتها المسلمة التي تعاني بشكل أو آخر من تعقيدات التّقاطع التاريخي بين الشرق والغرب وتدفع ثمنه تلك الأقليّات تمييزاً وسقوفاً زجاجيّة تعيق الارتقاء مجتمعيّاً. لكّن الأمر يتجاوز مسألة الخوف من فتح الأبواب فحسب، إذ أن الغرب وقف عام 2015 وقفة رجل واحد مع فرنسا وقت الهجوم الدّامي على مقر مجلّة شارلي أبيدو الساخرة، ولا شكّ بأنّه اليوم يتجنّب تكرار اصطفافه ذاك لإدراكه طبيعة التوظيف السياسيّ الفاضح الذي يقوم به ماكرون لمخرج سهل من أزمة شرعيته في عيون مواطنيه منذ انطلاق حراك السترات الصفر، ومن ثمّ تردي الأوضاع بشكل دراماتيكيّ بسبب تفشي الوباء.
نفاق علنيّ حول حريّة التعبير
أواخر أكتوبر الماضي، أجرى ماكرون مقابلة مع قناة «الجزيرة» قال فيها «أتفهم المشاعر التي يتم التعبير عنها واحترمها» في إشارة إلى الغضب من دفاعه عن الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلّم، مضيفاً قوله «ولكن يجب أن تفهموا دوري الآن هو القيام بأمرين: تعزيز الهدوء وأيضا حماية هذه الحقوق. سأدافع دائماً في بلدي عن حرية الكلام والكتابة والتفكير والرّسم».
لكّن صحيفة «بوست» كتبت تتساءل كيف لماكرون الادعاء بأنه بطل الدّعوة لحرية الصحافة في العالم الإسلامي» فيما هو «يسمح لوزرائه باقتراح قوانين تشبه التي انتقدها للتو، وربّما أسوأ منها»؟! ونفّذ صحافيّون وإعلاميون مشهورون احتجاجات على تشريعات دعمها تقيّد حريّة التعبير بأشكاله المتفاوتة، ناهيك بالطبع عن تشدد السلطات الفرنسيّة المعروف في ملاحقة منكري «الهولوكوست» ومنتقدي الصهيونيّة في تناقض تام مع ادعاءات حماية حريّة التعبير.
ربّما ستنتصر لغة المصالح في النهاية، ويجد الفرنسيّون طريقة للنزول عن الشجرة، وقد لا يتذكّر ماكرون كلمات أعدائه في العالم الإسلامّي، لكنّه دون شكّ لن ينسى صمت حلفائه أبداً.