قنبلة موقوتة بالصحراء من صنع جزائري

دعاهم وهو في السلطة ليحضروا إلى تونس حتى يعرض عليهم حزمة مقترحات أعدها لحل القضية الصحراوية، لكن طرفا منهم ولم يعد سرا، أنه نظام بوتفليقة رد بالرفض، فسقط حينها كل شيء في الماء.
غير أن المنصف المرزوقي لم ييأس أبدا من إعادة الكرة، ودعوة القادة المغاربيين مجددا، وهو خارج الحكم ليبحثوا من جديد عن حل. ومن الواضح أن هناك عقبة لم تُحيّد بعد، وهي وجود شبه قناعة في أن من يطلب من المسؤولين الجزائريين أن ينظروا للملف الصحراوي، بقليل من الموضوعية والتجرد، وأن لا يعتبروه شأنا داخليا، وينصبوا أنفسهم أوصياء حصريين وأبديين على مصير الصحراويين، يكون بنظرهم، كمن يقول لهم لا تقتربوا من قسنطينة، أو لا تنشغلوا بعنابة أو وهران.
ولعل الحرص على استبقاء ذلك الخلط هو واحد من أسباب شقاء باقي المغاربيين وتفضيلهم حالة السكون والسكوت، في وقت كانوا فيه مطالبين بأن يتكلموا ويتحركوا معا وبشكل ناجع ومفيد، لفض المشكل الصحراوي، عوض تركه على الرف. فما الذي جناه التونسيون والموريتانيون والليبيون من تجاهل حكوماتهم لبقاء قنبلة موقوتة ملقاة بإهمال على مرمى حجر من عقر دارهم؟ ثم هل استطاعوا فرادى ومشتتين أن يحققوا رخاء ونماء واستقرار دولهم؟ وهل تمكنت أقطارهم، بمط المشكل الصحراوي وعدم الحسم فيه باكرا، أن تكون بعدها بمأمن من كل تداعياته وآثاره الجسيمة والثقيلة عليها، وعلى بقاء جذوة الأمل الجماعي لشعوبها في بناء اتحاد إقليمي قوي وصلب، حية ومتقدة؟ قد يكون تقديرهم أن الدوافع إلى ذلك كانت مبررة بالرغبة في الحفاظ على مصالحهم، وهذا ما جعلهم لا يشيرون بإصبع الاتهام إلى المتسبب الحقيقي في استدامة المشكل، وإن فعلوا ذلك بعض المرات فبشكل ملتبس بعض الشيء، خشية أن يفسر الأمر على أنه انحياز غير محمود لطرف على حساب الآخر، وإخلال جسيم بتأكيداتهم على أنهم يقفون في ذلك النزاع المزمن على مسافة واحدة من الجزائريين والمغاربة على السواء. ولكن ألم يثبت مرة بعد أخرى أن ذلك الخيار كان خاطئا وفاشلا على طول الخط، وأنه كان من الناحية التاريخية والظرفية والاستراتيجية، جرما فادحا، لا بحق الشعوب الحالية فحسب، بل حتى بحق الأجيال المقبلة كذلك؟ المؤكد هو أن الرجوع عن الخطأ ليس تقليدا عربيا أو مغاربيا راسخا، ولأجل ذلك فليس مرحبا بمن يحاول، ومن أي موقع كان تصويب الرؤى، أو الإشارة إلى موطن الداء لا لغرض التهجم على طرف بعينه، بل من باب الحرص على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المشروع المغاربي. وذلك ما حصل مع الدكتور المنصف المرزوقي قبل أيام. فالجزء الكبير من الضجة التي أحدثتها تصريحاته الجمعة الماضي حين عبّر في تلك المقابلة بصراحة وشجاعة عن موقفه من الأزمة الحالية في الصحراء، قد يجد تفسيره، في عدم تعود الكثيرين على أن يسمعوا خطابا مغايرا، قد يخرج قليلا عما اعتاد السياسيون المغاربيون الرسميون، أو من تبوأوا مناصب رسمية خارج المغرب والجزائر بالطبع، قوله على مدى أكثر من أربعين عاما لوسائل الإعلام، في محاولة بهلوانية منهم لمسك العصا الصحراوية من الوسط، وإظهار نوع من الحياد الزائف والمضلل في تلك القضية. ومن البديهي أنه كان بإمكان الرئيس التونسي الأسبق أن يكرر الأمر نفسه، وأن يفعل تماما مثلما فعل هؤلاء، فيرد على سؤالي حول رأيه في الصمت الرسمي في دولتين مغاربيتين هما تونس وموريتانيا، وعدم إقدامهما على أخذ أي موقف واضح من التوترالأخير في منطقة الكركارات بأي جواب كلاسيكي من قبيل أنه لابد من التهدئة وضبط النفس، وأن المشكل الصحراوي قد عطل بالفعل بناء الاتحاد المغاربي، وأن كل ما يمكن أن يقال هو إنه لابد من أن يتفق الشقيقان المغربي والجزائري على حل معقول، لكن في إطار الأمم المتحدة التي تعهدت بالملف.

ما الذي جناه التونسيون والموريتانيون والليبيون من تجاهل حكوماتهم لبقاء قنبلة موقوتة ملقاة بإهمال على مرمى حجر من عقر دارهم؟

غير أن ما قام به الدكتور المرزوقي بالمقابل، هو أنه تجرأ وكسر القاعدة، وحاول الخروج قليلا عن النص، لا انحيازا للمغرب ضد الجزائر، كما فهم البعض، ولا مسا أو تقليلا من مكانتها ودورها، كما استبطن هؤلاء بل فقط حرصا على التمسك بخيط ولو رفيع من الأمل في تحقيق حلم ناضل هو واجيال سبقته في سبيل الوصول إليه يوما، وهو بناء اتحاد مغاربي كبير. وما يلام على المرزوقي هنا هو انه سمى الأشياء بمسمياتها، وأشار إلى الطرف الذي سد الباب أمام البحث عن حل لا يقود لتسوية المشكل الصحراوي فحسب، بل يمهد الطريق لبناء الاتحاد المغاربي المنتظر. أما لماذا قال ذلك الآن؟ وهل إنه غيّر حقا مواقفه، عما كانت عليه إبان حكمه؟ أم أنه استمر محافظا على الآراء والأفكار والرؤى نفسها من النزاع الصحراوي، ولكنه حين صار حرا من الضوابط الرسمية التي كانت تمنعه وتعيقه إلى حد ما من الكشف عنها، إبان عهدته الرئاسية لاعتبارات مفهومة بالوضوح التام، فعل ذلك بعدها بتجرد ومن دون حسابات؟
إن من يعرف الرجل عن قرب، سيرجح الاحتمال الثاني بلا شك. غير أن آخرين غيره ولو إنهم قلة حاولوا في وقت سابق وداخل الجزائر نفسها أن يعدلوا من مواقفهم مثل عمار سعداني الأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الجزائرية، حين صرح قبل عام وبشكل مفاجئ أن «الصحراء ارض مغربية، اقتطعت من المغرب في مؤتمر برلين» وأن «موضوع الصحراء يجب أن ينتهي، وأن تفتح الحدود وتسوى العلاقات بين الجزائر والمغرب، فمدن سوق اهراس والبيض وتمنراست أولى بالأموال التي تدفع لمنظمة البوليساريو، التي يتجول بها أصحابها في الفنادق الفخمة منذ خمسين عاما» على حد تعبيره. أما الفرق بين الاثنين فهو أن المسؤول الجزائري السابق نظر للمسألة ربما من زواية المصلحة الوطنية أكثر من أي شيء آخر، رغم أن هناك من اعتبر أنه ليس الشخص المناسب لفعل ذلك، لكن الرئيس التونسي الأسبق رأى الموضوع من الزاوية المغاربية، واعتبر أن الانطلاق من فكرة الحكم الذاتي للصحراء قد يكون فرصة لبدء حوار يسمح للمغاربيين باستعادة المبادرة في الملف. ولعل ذلك المسعى، أي البحث عن تلك المبادرة هو ما جعل وزير الخارجية الموريتاني الأسبق محمد فال بلال يقترح قبل أيام، فكرة الوساطة المغاربية، منبها إلى أن البعض سيرى أن اقتراحه هو كلام «رجعي وأحمق ومتخلف» وفي «أحسن الأحوال ترف فكري وأضغاث أحلام» . وقد تكون تلك العبارات أو بعضها هي ما سيعلق به فعلا كل من لم يفهم حتى الآن كيف أضاع المغاربيون أكثر من أربعين عاما من حياتهم في حرب طواحين الهواء، بينما لن يتأخر من استوعب ذلك جيدا، وبعد أن يقرأ تصريحات الدكتور المرزوقي في الرد بالعكس.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: