جزائر الله غالب ، مرض الرؤساء و فراغ السلطة
«حديث الفراغ يهيمن على ما يكتب ويقال عن الجزائر. هنا وفي الخارج أيضا، فرنسا تحديدا التي يرانا بعيونها جزء كبير من العالم، تجري المقارنات بصراحة بين الوضع القائم حاليا وما كانت عليه البلاد خلال فترة مرض بوتفليقة التي دامت سنوات، ومع المقارنة يعود السؤال المخيف: من يحكم حقا البلاد وأين يسير بها؟».
لم يجانب الصواب ما كتبته «الوطن» الجزائرية الإلكترونية، ففي الأيام القليلة الماضية فقط كتبت في هذا الموضوع كل من «لوموند» الفرنسية تحت عنوان «غياب الرئيس تبون يغرق الجزائر في سبات» و«لوفيغارو» تحت عنوان «مرة أخرى، الجزائر مُحرِّك بلا رئيس».
وسواء كتبت الصحف الفرنسية في هذا الموضوع أو تجاهلته فإن ذلك لن يقلل في شيء من أهمية وخطورة ما أثاره سفر الرئيس عبد المجيد تبون في الثامن والعشرين من أكتوبر-تشرين الأول الماضي إلى ألمانيا للعلاج فيما كان آخر ظهور علني له في منتصف ذلك الشهر. وإذا كان وضع كهذا مثيرا للقلق في أي بلد يلعب فيه الرئيس دورا أساسيا في نظامه السياسي، فإنه في الجزائر يضاف إليه عنصر بالغ الأهمية وهو الخوف من تكرار سيناريو بوتفليقة وعجزه لسنوات لم ينهها سوى حراك سلمي جارف أجبره على التنحي.
هذا الوضع جعل كل الجزائريين في وضع يطرحون فيه بقلق، وغضب ربما، نفس التساؤل الذي عبر عنه لصحيفة «لوموند» محسن بلعباس رئيس «التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية» المعارض حين قال «هل قُــدر علينا ألا يحكمنا سوى مُقعدين أو مرضى؟».
من المفهوم تماما أن احتمال عودة شبح سنوات بوتفليقة أمر يبعث فعلا على الحيرة ذلك أن تلك السنوات، التي لم يشأ فيها من كانوا الحاكمين الحقيقيين للبلاد أن يتخلوا فيها عمن كان واجهتهم، أدخلت البلاد لفترة طويلة في نوع من الكوميديا السوداء التي جعلت بعض الاجتماعات تضع صورة لبوتفليقة لتعويض غيابه بل ويلتقط البعض الصور مع هذه الصورة، فيما ظل تواصل الرئيس مع شعبه يتم عبر الرسائل أو ما يُنقل عنه.
هناك حاليا نوع من التكتم والحرج في الجزائر في التطرق إلى موضوع مرض الرئيس وإلى أين وصل بالضبط، وإلى غاية متى سيستمر غيابه، وانعكاس كل ذلك على مجمل الأوضاع
وضع غريب ومعيب وضع الحراك الشعبي حدا له، وسط إعجاب عالمي بسلميته ورُقيّه، ولكن الخوف الآن هو أن يعيد هذا الوضع إنتاج نفسه وسط ضبابية سياسية تتعلق بتوقيع الرئيس على نتيجة الاستفتاء على الدستور مطلع هذا الشهر والذي شهد إقبالا ضعيفا (3 من كل 4 جزائريين لم يشاركوا فيه) وكذلك ختمه لقانون المالية للعام 2021، فضلا عن معرفة باقي الخطوات في عملية الاصلاح السياسي والاقتصادي التي تقول السلطة إنها عازمة على تنفيذها. وما يزيد الأمر سوءا تفاقم الوضع الصحي بالبلاد مع انتشار فيروس كورونا الذي أجبرت الرئيس على المغادرة إلى الخارج لتلقي العلاج بعد الاصابة به، في رسالة سلبية للغاية لباقي الشعب الذي عليه أن يتعامل مع المنظومة الصحية الوطنية بكل علاّتها.
ليس عيبا أن يكون الرئيس في عمر الــ 75 ولا أن يمرض، فالكل معرض للمرض ولا يمكن سوى تمني الشفاء له وللجميع، ولكن المشكل أن مرض الرئيس يصيب البلد كله بالمرض ويفتح الباب على مصراعيه أمام كل التكهنات الخاصة بصراع مراكز النفوذ من أجل تثبيت المواقع تحسبا لأي طارئ. ها هو رئيس أمريكي في الثامنة والسبعين يتهيأ لدخول البيت الأبيض ولكن في تلك الربوع بلغت المؤسسات من الرسوخ، والقانون من العلوية، في الواقع وفي وجدان الناس، ما يحول دون أي هزة إذا ما حدث أي مكروه للرئيس خلال ممارسة مهامه، أما هنا فالوضع مغاير تماما.
هناك حاليا نوع من التكتم والحرج في الجزائر في التطرق إلى موضوع مرض الرئيس وإلى أين وصل بالضبط، وإلى غاية متى سيستمر غيابه، وانعكاس كل ذلك على مجمل الأوضاع، وهل هناك تصور واضح لمعالجة الفراغ الذي تركه إذا ما تواصل لفترة أطول، وكل هذه الأسئلة التي لا يتصدى المسؤولون لمجابهتها وإنارة الرأي العام بشأنها لا يمكن سوى أن تغذي الاشاعات والتكهنات وهذا مسيء لنفسية الناس واستقرار البللاد.
هناك من بدأ من الآن في الحديث عن أن مرحلة تبون إنما شارفت على الانتهاء وأن الاقبال الضعيف على استفتاء الدستور ما هو إلا إشارة واضحة إلى ذلك، ولكن من بامكانه الجزم أن كلاما كهذا له فعلا ما يؤكده، ومن بامكانه أيضا الجزم بأنه كلام خال من رائحة الصراعات بين مراكز القرار القديمة أو الجديدة والتي تداخلت حاليا بشكل معقد.
استقرار الجزائر استقرار للمنطقة بأسرها، والعكس صحيح، بحيث أن كل دول الجوار تبدو منشغلة بما يجري فيها حتى وإن لم تعلن ذلك صراحة، خاصة بعد أن عاد ملف الصحراء الغربية يطل برأسه من جديد في وقت تعيش فيه تونس وضعا صعبا للغاية وتنشد فيه ليبيا عودة الاستقرار بعد سنوات من الاقتتال الداخلي والتدخلات الخارجية المختلفة.
في وضع كهذا لا مكان إلا لأمنيات الشفاء للرئيس تبون والجزائر وكل المنطقة.