الحقيقة المفقودة في عهد ترامب

عندما تسأل أي أميركي اليوم عما ينتظره بعد الانتخابات الرئاسية، فإنه سيفكر مباشرة بالحقيقة المفقودة، أنه مثل الملايين على هذا الكوكب يريدون استعادتها، فهزيمة الرئيس دونالد ترامب كانت فرصة مثالية للتفكير في الحقيقة ليس للأميركيين وحدهم، العالم برمته يشعر أن الحقائق قد سُلبت ثم استبدلت، تضافرت رؤوس الأموال والشركات التكنولوجية الكبرى والحكومات ورجال الدين على صناعة ما بعد الحقيقة وتقسيم المجتمعات وفقا لتباين النقائض بوصفها حقائق مختلفة، وتغييب مقصود للحقيقة نفسها.

دعك من ترامب ما بعد اليوم، مع أنه سيبقى فاصلة مهمة في التاريخ المعاصر لما بعد الحقيقة ولن يغادر أروقته بسهولة، لكنه تسبب في صدمة إعادة تعريف النقائض بوصفها حقائق.

لقد حصل ترامب بمجرد خسارته الانتخابات على صفقة إصدار كتب وبرامج وأعمال تلفزيونية عن تجربته الرئاسية تقدر قيمتها بمئة مليون دولار. بينما ترك المجتمعات تبحث عمن يضع الحلول لإنقاذها من الجو السام للتزييف في وسائل الإعلام الرقمية والتلفزيونات على حد سواء.

أو بتعبير الصحافي الأميركي توماس فريدمان وهو يتأمل مستقبل بلاده بعد هزيمة ترامب وبقاء الترامبية، بأن الحقيقة وحدها هي القادرة على إنقاذ ديمقراطيتنا بعد أن عملت رئاسة ترامب على تطبيع الكذب بشكل خطير وشيطنة الصحافة ونعتها بالبذرة السامة.

غياب الحقيقة عن وسائل الإعلام يقود إلى منع اختيار المجتمعات لخطاباتها وتنظيم أنفسها في ديمقراطية جديدة من الأفكار والمعلومات، وتغيير مفاهيم السلطة

ترامب لم يحرر نفسه من الحقيقة فحسب، بل حرر الآخرين ليروجوا لأكاذيبهم عن وسائل الإعلام المسؤولة وعالية الحساسية من أجل جني الفوائد السياسية.

لم يفقد فريدمان التهكم بشأن مستقبل الحقيقة بالتساؤل القائل “أليس الكذب إحدى الوصايا العشر؟” لكن قيم الصحافة المثالية ترفض أن نشهد بالزور! أو وفق حكمة رئيس تحرير الغارديان سي بي سكوت التي قالها قبل مئة عام “من الجيد أن نكون صرحاء مع القراء، لكن الأفضل من ذلك أن نكون عادلين”، مشددا على أن حرية الكلام متاحة للجميع، لكن الحقائق يجب أن تبقى مقدسة بالنسبة إلينا كصحافيين.

بيد أن وسائل الإعلام التي لا تشارك في نشر الحقائق لا يمكنها هزيمة وباء كورونا مثلا، ولا يمكنها الدفاع عن حقوق المجتمعات ومحاسبة الحكومات والإسهام في حرية تبادل المعلومات.

وهكذا تتخذ الحرب من أجل الحقيقة من الخلاف السام سببا بعد أن أربك العالم وغير نظرة الناس إلى وسائل الإعلام، هي حرب للحفاظ على مثالية الصحافة مثلما هي معركة الديمقراطية الحقيقية.

ليس المُزيفون وحدهم من يشعرون أن الأكاذيب وصلت إلى منتصف الطريق، هناك ماكنة سياسية ودينية تدفع إلى النهاية من أجل ذلك، بينما مازالت الحقائق تتحرك بخطوتها الأولى، لسوء الحظ.

لقد تلوث العالم بأكاذيب السياسيين ورجال الدين والحكومات والشركات… من أجل ألا يعرف الناس ما هو الصحيح، وإذا لا يوجد ما هو صحيح يمكن لكل شيء أن يكون كاذبا! ويصبح من المستحيل الحفاظ على مجتمع حر عندما يشعر السياسيون ووسائل الإعلام بالحرية في نشر الأكاذيب دون محاسبة.

مع ذلك ليس من السهولة أن يتفق الجمهور على ما يمكن أن يسمى بالحقائق، وهذا لا يعني أنه لا توجد حقائق، لكننا لا نستطيع أن نتفق على ماهية تلك الحقائق بوجود هذا الكمّ الهائل من المُرسِلين. وعندما لا يكون هناك توافق في الآراء بشأن حقيقة ما، ولم يعد بإمكان وسائل الإعلام كمنصات تلقى قبول الرأي العام لتحقيق ذلك، فهذا يعني أننا نقترب من الفوضى.

يقول ديفيد شبلر مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز السابق في موسكو، خلال سنوات الحرب الباردة “لا تنجح الأكاذيب ما لم يتم تصديقها، وقد أثبت ما يقارب من نصف الجمهور الأميركي أنه ساذج بشكل ملحوظ”. لنا أن نعكس هذا الكلام على جمهورنا العربي وهو يصدق خطاب الخرافة التاريخية التي تديره وسائل إعلام حزبية وطائفية لإشاعة ثقافة القطيع، في مهرجان قائم ومستمر لتغييب التفكير.

يختصر علينا فريدمان ذلك بالقول “دون الحقيقة لا يوجد طريق متفق عليه للمضي قدما، ودون الثقة لا توجد طريقة للسير في هذا الطريق معا”. وتلك مهمة جوهرية لوسائل الإعلام. ويعبر عن اعتقاده بالقول إن كل واحد منا لديه جهاز إنذار خاص به، إلا أن تصديق الأكاذيب على سذاجة بعضها يبدو كما لو أن بطارية جهاز الإنذار قد نفدت، أو أهمل بعضنا شحنها بالمعرفة بشكل مستمر.

ترامب لم يحرر نفسه من الحقيقة فحسب، بل حرر الآخرين ليروجوا لأكاذيبهم عن وسائل الإعلام المسؤولة وعالية الحساسية من أجل جني الفوائد السياسية

ذلك ما دفع كاثرين فاينر رئيسة تحرير صحيفة الغارديان البريطانية إلى التحذير من انتشار هذا النهج الملتبس حول مفهوم الحقيقة، لأنه يوحي بأننا كصحافيين في خضم تغيير جوهري في قيم الصحافة وتحوّلها إلى مصدر تجاري استهلاكي بدلا من تعزيز الروابط الاجتماعية والديمقراطية، والارتقاء بوعي الجمهور والحد من الفساد السياسي.

غياب الحقيقة عن وسائل الإعلام يقود إلى منع اختيار المجتمعات لخطاباتها وتنظيم أنفسها في ديمقراطية جديدة من الأفكار والمعلومات، وتغيير مفاهيم السلطة، وإطلاق الإبداع الفردي، ومقاومة خنق حرية التعبير.

لذلك يقترح فريدمان أن تتبنى وسائل الإعلام ما أسماه تطرفا إلى حد ما بـ”قاعدة ترامب”، فليس ترامب الكاذب الوحيد بين الزعماء، هناك ما هو أكذب منه في عالمنا العربي!

ويطالب فريدمان وسائل الإعلام بعدم التعامل مع أي مسؤول ثبت أنه أدلى بتصريح زائف وخال من الحقائق، ويرى أن يكون هذا هو الوضع الطبيعي الجديد الذي يجعل السياسيين يصابون بالذعر قبل أن يقدموا على إعلان الأكاذيب على الجمهور. عليهم أن يعرفوا أن الصحافيين جاهزون على مطالبتهم بحقيقة ما يزعمون قبل فوات الأوان.

نحن بحاجة إلى القتال من أجل الحقيقة، وعدم التردد في الوقوف بوجه قوى التضليل. لأنها معركتنا جميعا من أجل الحرية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: