عندما تهرب الجزائر إلى الصحراء المغربية
كان لا بد من تدخل حاسم للقوات المسلّحة المغربية، بطريقة نظيفة وراقية إلى أبعد حدود، من أجل الانتهاء من وضع غير طبيعي افتعلته الجزائر في منطقة الكركرات عن طريق أداة اسمها جبهة “بوليساريو”. والكركرات معبر حدودي بين المغرب وموريتانيا تسللت إليه عناصر من “بوليساريو” كي تعرقل تدفق البضائع والأشخاص بين البلدين. الهدف الجزائري، من خلال تحريك “بوليساريو” واضح كلّ الوضوح. إنّه جزء من حرب الاستنزاف التي يتعرّض لها المغرب منذ سنوات طويلة بدءا بافتعال قضيّة الصحراء بحجة وجود شعب يمتلك “حق تقرير المصير”.
مرّة أخرى، هناك شعب صحراوي موجود على طول الشريط الممتد من السنغال إلى السودان، مرورا بالجنوب الجزائري. لو كانت الجزائر مهتمّة بالفعل بحق تقرير المصير لهذا الشعب، لماذا لا تُنشئ له دولة مستقلة في أراضيها؟ كلّ ما في الأمر أن الجزائر تريد المتاجرة بالصحراويين لا أكثر. تريد بقاءهم في تندوف حيث أقامت لهم مخيمات بائسة لا تنتج سوى إرهابيين وذلك من أجل تبرير عملية ذات طابع مافياوي أكثر من أيّ شيء آخر.
تختزل الموقف الجزائري تلك الرغبة الجامحة في القول إن قضية الصحراء ما زالت عالقة مع المغرب في حين أن صفحة هذه القضيّة، المفتعلة أصلا، طويت منذ سنوات عدّة. طويت الصفحة بعدما تأكّدت مغربية الصحراء وبعد نضال طويل خاضه المغرب من أجل استعادة حقوقه في أراضيه. أكثر من ذلك، طرح المغرب خيار الحكم الذاتي الموسّع للأقاليم الصحراوية، وقد أخذت الأمم المتحدة علما بهذا الخيار الذي يمكن اعتباره الحل العملي الوحيد المطروح في إطار سيادة المغرب على أرضه، بما يحافظ على وحدته الترابية في الوقت ذاته.
بدأ النضال المغربي بـ”المسيرة الخضراء” التي انطلقت في مثل هذه الأيّام، في عهد الملك الحسن الثاني، رحمه الله. كان ذلك قبل 45 عاما بعد الانسحاب الإسباني من الصحراء. كانت المسيرة الشعبية المغربية سلميّة. لم يتخلّ المغرب يوما عن الطابع السلمي في كلّ تحركاته، باستثناء حالات الدفاع عن النفس. يؤكّد ذلك تفادي القوات المسلّحة أي نوع من العنف وممارسة أعلى درجات ضبط النفس لدى قيامها بعملية تستهدف إعادة فتح معبر الكركرات. ما حصل كان أن عناصر “بوليساريو” أحرقت الخيام التي أقامتها عند معبر الكركرات وفرّت أمام القوات المغربيّة.
كان لا بدّ من تفسير مغربي يستند إلى الحقيقة بعد كلّ ما حصل. هذا ما دفع وزارة الخارجية المغربية إلى اعتماد المنطق وتأكيد أن “التحركات الموثقة (لجماعة بوليساريو) تشكل بحق أعمالا متعمدة لزعزعة الاستقرار وتغيير الوضع بالمنطقة، وتمثل انتهاكا للاتفاقات العسكرية، وتهديدا حقيقيا لاستدامة وقف إطلاق النار. وأن هذه التحركات تقوض أية فرص لإعادة إطلاق العملية السياسية المنشودة من قبل المجتمع الدولي”.
وأوضح بيان لوزارة الخارجية أنه “منذ 2006، ضاعفت ‘بوليساريو’ هذه التحركات الخطيرة وغير المقبولة في هذه المنطقة، في انتهاك للاتفاقات العسكرية، ودون اكتراث إلى تنبيهات الأمين العام للأمم المتحدة، وفي خرق لقرارات مجلس الأمن التي دعت ‘بوليساريو’ إلى وضع حد لهذه الأعمال الهادفة إلى زعزعة الاستقرار”.
وخلص بيان الخارجية المغربية إلى أن “المملكة منحت كلّ الوقت الكافي للمساعي الحميدة للأمين العام للأمم المتحدة ولبعثة ‘مينورسو’ (التابعة للأمم المتّحدة) من أجل حمل ‘بوليساريو’ على وقف أعمالها الهادفة إلى زعزعة الاستقرار ومغادرة المنطقة العازلة للكركرات، إلا أن دعوات ‘مينورسو’ والأمين العام للأمم المتحدة، كذلك، تدخلات العديد من أعضاء مجلس الأمن ظلت للأسف من دون جدوى، وبالتالي فإن ‘بوليساريو’ تظل لوحدها، تتحمل كامل المسؤولية وكل عواقب هذه التحركات”.
لا بدّ من الذهاب إلى أبعد من التحرّك الجزائري، عبر “بوليساريو”. المهمّ في البداية هو التوقيت. التوقيت هو مرور 45 عاما على “المسيرة الخضراء”، وهي ذكرى عزيزة على كلّ مغربي. ألقى العاهل المغربي الملك محمّد السادس خطابا في المناسبة شدّد فيه على أهمّية استعادة الصحراء من المستعمر الإسباني من جهة وما حقّقه المغرب من إنجازات في السنوات الماضية من جهة أخرى.
وضع الملك محمّد السادس الصحراء، بما تمثله، في إطار مشروع التنمية المغربي وامتداده المتوسطي، عبر ميناء طنجة – ميد، وامتداده الآخر الأفريقي. مثل هذا الخطاب الحضاري المرتبط بكلّ ما هو عصري، هو أكثر ما يكرهه النظام الجزائري الذي تسيطر عليه المؤسسة العسكرية. تعي هذه المؤسسة تماما أن عليها الهرب من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للجزائر عبر تصديرها إلى الخارج. فوق ذلك، إن ما يقوم به النظام الجزائري، في ضوء انتخاب مرشّح الحزب الديمقراطي جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، رهان على أن الإدارة الأميركية الجديدة ستكون منحازة في طروحاتها بالنسبة إلى الصحراء المغربية…
في كلّ الأحوال، اعتمد المغرب الحزم عندما تطلّب الأمر ذلك. يعرف المغرب أن لا أفق للمناورات الجزائرية التي استهدفت منذ البداية إنشاء كيان وهمي في الصحراء المغربية يدور في الفلك الجزائري. فشلت تلك المناورات المستمرّة منذ العام 1975. ربح المغرب حرب الصحراء عسكريا منذ العام 1985، بعد نجاحه في سياسة إقامة الجدران الدفاعية. وربحها سياسيا عندما اكتشف العالم، في مرحلة لاحقة، أن طرحه في شأن الحكم الذاتي الموسّع طرح واقعي وعملي صار مقبولا لدى المجتمع الدولي.
لا شكّ أن الجزائر ستحرّك “بوليساريو” كي تشنّ عمليات عسكرية في بعض المناطق الصحراوية. تريد القول إن حربا تدور في الصحراء. ليس معروفا كيف يمكن الاستثمار، جزائريا، في مثل هذا النوع من الاستفزازات التي لا طائل منها، بدل انصراف الجزائر إلى معالجة مشاكلها الداخلية.
ظهرت هذه المشاكل بوضوح بعد مقاطعة الشعب الجزائري، بأكثريته الساحقة، للاستفتاء على التعديلات الدستورية مطلع الشهر الجاري. بدل أخذ العلم بالمعنى الحقيقي لانصراف الجزائريين عن الاستفتاء، لجأ النظام إلى التصعيد عند معبر الكركرات. هربت الجزائر إلى الصحراء المغربية بدل أن تذهب إلى الاهتمام بما يعاني منه شعبها على كلّ صعيد وتركّز على ذلك.
كانت لمثل هذا النوع من الألاعيب فائدة ما في الماضي، أي في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. كانت تلك الألاعيب صالحة أيّام الحرب الباردة. يبدو واضحا أن الجزائر لم تأخذ علما بعد بانتهاء الحرب الباردة وأن لا مكان في المنطقة لدول تطمح إلى لعب دور القوّة الإقليمية المهيمنة. لا الوضع الإقليمي يسمح بذلك ولا الوضع الدولي ولا الاقتصاد الجزائري، القائم على منظومة فاسدة، الذي لم يعرف يوما كيف يتحرّر من سعر الغاز والنفط.