مأزق الدستور الجزائري المزمن

رغم تجربته الطويلة في ممارسة سياسة الهروب إلى الأمام التي انتهجها منذ الاستقلال سنة 1962 والتي أوصلت البلد إلى فشل متعدد الأبعاد، لم يفهم النظام الجزائري إلى اليوم أنها سياسة غير مجدية بل أصبحت محفوفة بمخاطر جمة. ولا يزال ماضيا غير آبه بآراء أغلبية الجزائريين ومصالحهم الحيوية.

بعد أن فرض قائد أركان الجيش السابق الفريق أحمد قايد صالح على الجزائريين رئيس جمهورية، رغم صناديق انتخابات رئاسية شبه فارغة يوم 12 ديسمبر 2019، جاء خليفته الفريق سعيد شنقريحة ليفرض عليهم تعديلا دستوريا عبر نسبة مشاركة ضئيلة (23.72 في المئة)، هي الأضعف إذ لم تعرف الجزائر أدنى منها على الإطلاق في كل الانتخابات التي أجريت منذ الاستقلال. ولم يكن ذلك نتيجة لشفافية مفاجئة، كما تدعي قنوات النظام، وإنما لعدم توافق أجنحة الحكم على نسبة أعلى، إذ يرى الكثير من الملاحظين أنها مضخمة وأن النسبة الحقيقية لم تتجاوز في الواقع 10 في المئة.

بحثا عن استرجاع شرعية مفقودة كان على النظام أن يحاول في كل مرة تحسين نتائج الاقتراع السابق وتزيينها من خلال الموالين له عن طريق التزوير، خاصة إذا جاءت النسبة على خلاف “الطريقة السوفييتية”، كما يعترف اليوم ولاة ووزراء سابقون. ولكن، في هذه المرة “جا يسڨمها عماها” كما يقول المثل الشعبي الجزائري، أراد تحسين الأمر فزاده سوءا.

جاءت إصابة الرئيس عبدالمجيد تبون بفايروس كوفيد – 19 لتربك النظام وتدخله في ورطة دستورية وسياسية لم يكن ينتظرها

انتخب عبدالمجيد تبون رئيسا بنسبة مشاركة رسمية لم تتعد 41.13 في المئة ونزلت النسبة في هذا الاستفتاء الأخير إلى 23.72 في المئة!

وهذا يعني أنه لم يشارك سوى حوالي 5 ملايين ونصف المليون من أصل حوالي 25 مليونا جزائريا مسجلا على القوائم الانتخابية. فلا الرئيس حسّن صورته وكسب شرعية أكثر، ولا صودق على الدستور مصادقة شعبية تليق به.

فما مرد هذا الفشل الذريع في تجنيد الجزائريين رغم الإمكانيات المالية والإعلامية والبشرية التي سخرها النظام لهذا الاستفتاء؟

تعود هزيمة النظام إلى عوامل كثيرة أبرزها عدم انخراط أغلبية الشعب الجزائري في خارطته منذ البداية، فالمواطنون في كوكب والحكام في كوكب آخر. ومع مرور الوقت ما فتئت الهوة تزداد اتساعا بين الطرفين المتنازعين؛ خلال 10 أشهر، مثلا، خسر النظام حوالي 4 ملايين صوت من وعائه الانتخابي؛ من 9 ملايين مشارك في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر 2019 انخفض عدد المشاركين إلى حوالي 4 ملايين في استفتاء التعديل الدستوري ليوم 1 نوفمبر 2020.

لم يضيّع النظام الأصوات فحسب بل بدأ في إتلاف رمزية ثورة نوفمبر بعد أن حاول استغلال عواطف الجزائريين والدفع بهم للتصويت يوم غرة نوفمبر، تاريخ انطلاق ثورتهم التحريرية سنة 1954، ولسوء حظه لم يستجيبوا.

وقد دهور النظام الحالة الصحية للجزائريين بتنظيمه لهذا الاستفتاء في زمن انتشار كوفيد – 19، من خلال 900 تجمع خلال الحملة الانتخابية، من نتائجها أن تضاعفت أعداد المصابين بالفايروس، كما يؤكد المعهد الوطني للصحة العمومية وهو مؤسسة تابعة لوزارة الصحة.

لقد فهم الجزائريون أن النظام فضّل المحافظة على أجندته السياسية بدل الحفاظ على صحتهم.

علاوة على الشرخ الكبير بين المروجين لجزائر جديدة لا يرى شبحها في الأفق أحد، والذين يعيشون في جزائر حقيقية منكوبة يواجهون التدهور الاقتصادي والاجتماعي. ليتواصل الحراك بكل الطرق الممكنة رغم كورونا ورغم استمرار القمع والمحاكمات.

جاءت إصابة الرئيس عبدالمجيد تبون بفايروس كوفيد – 19 لتربك النظام وتدخله في ورطة دستورية وسياسية لم يكن ينتظرها، سرعان ما أعادت إلى الأذهان الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام عند نقله إلى ألمانيا للعلاج يوم 28 أكتوبر، ما كابده الجزائريون من شغور على رأس الدولة مع مرض الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بدءا بعام 2013 إلى أن طرده الجزائريون سنة 2019.

بحثا عن استرجاع شرعية مفقودة كان على النظام أن يحاول في كل مرة تحسين نتائج الاقتراع السابق وتزيينها من خلال الموالين له عن طريق التزوير

بسبب عدم تفعيل المادة 102 من الدستور السابق إثر مرض بوتفليقة التي تقول “إذا استحال على رئيس الجمهوريّة أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوريّ وجوبا، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكلّ الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التّصريح بثبوت المانع”، عاشت الجزائر 6 سنوات كاملة بين يدي قوى غير دستورية، كما يعترف قائد الأركان السابق ذاته والذي كان هو نفسه يأتمر بأوامر تلك القوى الخارجة عن القانون.

حتى لو اضطر الحكام الفعليون اليوم لتفعيل تلك المادة، والتي أصبحت المادة 94 بعد التعديل، فلن يجدوا صيغة تخرجهم من المأزق الدستوري والسياسي لأن رئيس الجمهورية الغائب لم يوقع بعد وثيقة الدستور الجديد.

يبقى البلد معطلا ولا حل في الأفق، وكأن التاريخ يعيد نفسه مع عبدالمجيد تبون. رفضنا عهدة خامسة لبوتفليقة وها نحن نعود لنعيش عهدة رابعة مع تبون، هذا ما يقوله الجزائريون في سخرياتهم السوداء. أليس شر البلية ما أضحك.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: