اندفاع ماكرون وتراجعه: أزمة أم صحوة؟
لم يكن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في مدينة ليه موروه بتاريخ 2 -10-2020 خطاباً اعتيادياً مألوفا، وذلك من جهة الموضوعات التي تناولها، والمدة التي استغرقها، وردود الأفعال التي أثارها.
وقد عرض ماكرون عبر هذا الخطاب خطة حكومته في مواجهة تحركات وخطط الجماعات الإسلاموية، وبيّن أنها تستند إلى التجارب التي اعتمدها منذ نحو ثلاث سنوات في ميدان التضييق على الجماعات المعنية، ومتابعة ساحات تحركاتها.
واعترف ماكرون في خطابه المعني هنا أن الجمهورية قد قصّرت كثيراً على مدى عقود عديدة من ناحية تقديم الخدمات للمواطنين، وتأمين فرص عادلة في مختلف المناطق، وعدم التمييز بين المواطنين لأي سبب كان.
وحتى نفهم ماكرون جيداً علينا أن نضع أنفسنا في موضعه، لنتعرف إلى الدوافع التي أدت به إلى تقديم هذا الخطاب الإشكالي الذي ستظل نتائجه متفاعلة رغم محاولات التطويق، والتوضيح، ومن بينها مقابلته الطويلة مع قناة “الجزيرة” بتاريخ 31-10-2020.
فالمجتمع الفرنسي يعاني من حصيلة تراكمات الأخطاء الإدارية؛ والتغاضي عن الممارسات التمييزية؛ والتمسك المتشدد ببعض الجوانب السطحية من العلمانية؛ وظاهرة الضواحي المنسية المهمشة؛ والفوارق المجتمعية المتفاقمة؛ وارتفاع نسبة البطالة بين المهاجرين، وضعف نظام الضمان الاجتماعي مقارنة بدول أخرى في أوروبا الغربية. وقد أدى كل ذلك، وغيره الكثير، في العديد من الأحيان إلى توترات صاخبة عنيفة بين الجيل الثاني والثالث من المهاجرين سكان الضواحي والسلطات.
وقد حاولت قوى مختلفة استغلال الثغرات ضمن أوساط المهاجرين، سواء في إطار الجريمة المنظمة، أو في استقطاب الناقمين ليكونوا مشاريع أعضاء في حركات متشددة متطرفة. كما حاول اليمين الفرنسي المتطرف هو الآخر استغلال الموقف لتسويغ موقفه المناهض للهجرة والمهاجرين عموماً.
ولا يُنكر هنا أن الإسلام المتشدد قد نشط في فرنسا منذ مدة. وقد ارتكبت العديد من الجرائم من قبل أشخاص نسبوا أنفسهم إليه، أو تبنتهم المنظمات الإسلاموية المتشددة، خاصة تنظيم “داعش”. وهي جرائم أثارت الرأي العام الفرنسي والأوروبي بصورة عامة، ووضعت السياسيين الفرنسيين أمام مسؤولياتهم، وألزمتهم بالعمل من أجل معالجة أسباب ما حدث ويحدث.
بالإضافة إلى ما تقدم، يعاني ماكرون من تآكل شعبيته على الصعيد الوطني الفرنسي؛ وهو الأمر الذي لا يبشر بالنتيجة التي يتمناها في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فهو يدرك أن الحظوظ التي توفرت له، ومكّنته من الفوز بالرئاسة قبل أكثر من ثلاث سنوات، من الصعب أن تتكرر ثانية بعد نحو عامين ما لم يقدم على خطوات تظهره في مظهر الرئيس القوي، القادر على معالجة تركة ثقيلة من السلبيات والأخطاء المتراكمة من مخلّفات العهود التي سبقته.
جاءت خطة ماكرون، التي من المفروض أن تعرض في شهر ديسمبر المقبل على الجمعية الوطنية الفرنسية لتصبح قانوناً إذا ما حصلت على الموافقة، في خمسة محاور رئيسة هي: حيادية مؤسسات الدولة؛ الجمعيات؛ المدرسة؛ الصحوة العلمانية ومحور جاذبية الدولة.
وفي سياق شرحه المطول للخطوات التي يعتزم اتخاذها بخصوص كل محور، تطرق الرئيس الفرنسي إلى الجهود التي كانت حتى الآن من جانب حكومته لمواجهة تشدد الجماعات الإسلاموية، وتبعات سلسلة من الأعمال الإرهابية المنسوبة إليها، أو تلك التي تبنتها. وقد شملت تلك الإجراءات: متابعة وإغلاق بعض الجمعيات، ومصادرة أموال الجريمة المنظمة، ومراقبة المدارس الخاصة، وحصر أعداد المتسرّبين من التعليم الإلزامي، والتدقيق في جهود الجماعات المعنية في ميدان الفصل بين الجنسين، خاصة في دروس الرياضة.
وهذا معناه أن حملة المواجهة بين السلطات الفرنسية والجماعات المعنية مستمرة منذ مدة طويلة، والحكومة هي الآن في طريقها نحو شرعنة اتخاذ المزيد من الخطوات للتضييق على تلك الجماعات، والتشدد في منع ممارساتها، وذلك لمواجهة الظاهرة التي سماها ماكرون بـ “الانفصالية الإسلامية” أو “الانعزال الإسلامي” عبر تشكيل المجتمع الموازي.
هناك وقائع أكيدة يعاني منها المجتمع المسلم الفرنسي، أو ربما بتعبير أدق المسلمون الفرنسيون، لا بد من الاعتراف بها، سواء من جانب الفاعلين ضمن المجتمع المذكور نفسه، أم من جانب الحكومة الفرنسية التي لابد أن تتحمّل مسؤولياتها بصورة كاملة، وتعتمد خطة وطنية شاملة، تناقش على المستوى الوطني من خلال حوارات مع المفكرين الفرنسيين والمسلمين من مختلف الاتجاهات؛ ورجال الدين المتنورين من مختلف الأديان؛ والإعلاميين وأصحاب الاختصاص في ميدان سياسات الاندماج؛ وذلك بغية تحديد المشكلات؛ وتشخيصها؛ ومعاينة أسبابها؛ والتوافق على حلّها لمصلحة المجتمع الفرنسي بصورة عامة. وهي المصلحة التي لا تنفصل بأي شكل من الأشكال عن المصالح الفرعية للجاليات المختلفة، خاصة الإسلامية، باعتبارها موضوع الساعة.
أما التعامل مع القضية من موقع حكومي سلطوي، ومحاولة فرض الخطط بالقوة بكل الأشكال، بما في ذلك قوة القوانين الاستثنائية، فإن ذلك لا يقدم نموذجاً جاذباً للدولة الفرنسية، وهو النموذج الذي أكد أهميته الرئيس ماكرون نفسه في سياق تناوله للمحاور الخمسة المشار إليها.
فتجمعات المسلمين في ضواحي المدن الفرنسية الكبرى تعاني من تزايد نسبة الجريمة المنظمة. كما أن العديد من الجوامع باتت تحت سيطرة المتشددين. وهناك أساليب عدة تعتمد من قبل الأفراد والجمعيات لاستغلال الثغرات في القانون الفرنسي.
ولكن في المقابل تعاني التجمعات المقصودة هنا من التهميش وعدم الاهتمام؛ وعدم وجود خطة وطنية جادة، تقوم على تشخيص أسباب المشكلات لمعالجتها معالجة جذرية، خاصة عن طريق تشجيع التعليم، وتوفير المزيد من فرص الإعداد المهني والعمل أمام الشباب؛ وعدم وضع العراقيل أمامهم بذريعة الحرص على مظهر الجمهورية العلماني، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى موضوع الحجاب الذي ما زال محور امتعاض الكثير من السياسيين الفرنسيين.
فالتدين أو الالتزام بالدين، أمر مختلف تماماً عن التشدد، واستغلال الدين أداة تعبوية في سبيل بلوغ مآرب سياسية، أو أهداف، تتعارض كلية مع جوهر الدين ومبادئه وقيمها الأخلاقية في المقام الأول.
ثلاثة أمور أساسية أتت على لسان ماكرون ضمن خطابه وبعده، أثارت الرأي العام الشعبي – إذا صح التعبير- في الدول الإسلامية بصورة سلبية، وتسببت في ردود أفعال قوية تمثلت في دعوات المقاطعة، والمطالبة بالاعتذار؛ وهي: أولاً قوله ان الإسلام في أزمة في كل مكان. ومن ثم إعلانه بأنهم في فرنسا يعملون من أجل إسلام تنويري. هذا إلى جانب إدراجه مسألة نشر الرسوم المسيئة في خانة حرية التعبير، وذلك بعد الجريمة المروعة المدانة التي تعرض لها المدرس الفرنسي صامويل باتي.
ورغم محاولة ماكرون التراجع عن موقفه الأول الذي أعلنه في خطابه، إذ بين في مقابلته مع “الجزيرة” وفي مقاله المنشور في “فايننشال تايمز” بتاريخ 4-11-2020 بأن الأزمة هي أزمة المجتمعات الإسلامية، وهذا التراجع يعد نقطة إيجابية يمكن البناء عليها، وتطويرها. ولكنه مع ذلك لم يتمكن من تحديد الموقف الواضح بخصوص الفصل بين حرية التعبير والإساءة لمشاعر وعقائد نحو ستة ملايين فرنسي من مواطنيه، ونحو مليار ونصف مسلم على مستوى العالم.
أما بالنسبة إلى الإسلام التنويري، فهو موضوع يحتاج إلى المزيد من المناقشة والمعالجة الهادئة، بعيداً عن كل أشكال الهندسة السياسية للمسائل العقائدية، والسلوكيات المترتبة عليها. وهذا الموضوع لا يخص فرنسا وحدها، بل بات موضوعاً ملحاً في غالبية الدول الغربية التي فيها جاليات مسلمة كبيرة، مثل ألمانيا وبريطانيا والدول الاسكندنافية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرها.
فالوضعية المشخصة التي تعيشها هذه الجاليات بجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيمية، تختلف إلى حد كبير عن تلك التي كانت في مجتمعاتها الأم. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار واقع عدم وجود تجانس ضمن الجاليات المعنية. فالمسلمون الذين يعيشون في الدول الغربية، يختلفون فيما بينهم من جهة اللغة والانتماءات، فضلاً عن مستويات التحصيل العلمي، والاطلاع الثقافي، ودرجة الاستعداد للتكيف والاندماج مع مجتمعاتهم الجديدة. وهذ الوضعية لا تتناسب قطعاً مع تنامي نزعات التشدد والتطرف التي تقف وراءها قوى الإسلام السياسي التي تستغل واقع شعور شباب هذه الجاليات بالفراغ والغربة والاغتراب، وتأثرهم السلبي بحملات مناهضة الأجانب التي تقف وراءها القوى القوموية العنصرية في العديد من المجتمعات الغربية. كما تستفيد القوى الإسلاموية المعنية هنا من التقدم الكبير في ميادين الإعلام والمعلومات، لا سيما في حقول الفضائيات، ومنصات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن الخدمات المجانية في حقل الاتصالات الهاتفية، ومختلف برامج التواصل السمعي- البصري.
إلا أنه رغم كل شيء، فإن عملية التكيّف مع الواقع الجديد لن تكون عبر إجراءات إجبارية زجرية، بل تستوجب حوارات معمقة، وتدابير بناء الثقة، وهذه مسألة يمكن أن تنجز عن طريق حوارات بين المتابعين والمهتمين بهذا الموضوع من أصحاب مختلف الاختصاصات. ويمكن الاستفادة في هذا المجال من أبحاث ودراسات المستشرقين القدامى والجدد، بإيجابياتها وسلبياتها؛ كل ذلك بهدف خلف مناخ ملائم للتفاهم والثقة المتبادلة، الأمر الذي سيساهم بدوره في تفهم الرأي العام لطبيعة المسألة من جوانبها المتعددة.
هناك مشكلة تستوجب حلاً، هذا أمر لا خلاف حوله، ولا بد من الاعتراف به. ولكن ما طبيعة هذا الحل؟ وكيف السبيل للوصول إليه؟ هذا هو ما ينبغي البحث عنه، والعمل من أجله، بعيداً عن لغة التهديد والاتهامات والمظلوميات، وبعيداً عن الإرهاب والرهاب.