فرنسا والتطرف

تمضي فرنسا، في مواجهة التطرف، في الطريق الخطأ. وهذا لن يفضي إلى حل. هناك خمسة ملايين مسلم فرنسي. وعندما يتم استعداؤهم بطريقة فجة، فذلك ما لا يخدم السلام الاجتماعي، ولا العلمانية نفسها.

غني عن القول إن حرية التعبير حق مقدس، بعلمانية أم بغيرها. ولكن ليس من حق أي أحد أن يستخدم حرية التعبير لتوجيه الإهانة لحشد هائل من البشر. حرية التعبير شيء، وتوجيه الإهانات شيء آخر. حق أي إنسان في التعبير يتوقف عندما تبدأ حقوق الآخرين. هذه هي القاعدة. ومن حق المسلمين، في فرنسا، وفي كل العالم أن يُعاملوا باحترام. هم ومعتقداتهم على حد سواء.

لنفترض أن هؤلاء الناس مجانين. يعتقدون، بسبب جنونهم ذاك، أن الرسول محمد لا يُمس، لأن حبه من حب الله، وأنهم يمكن أن يفتدوه بأرواحهم. وهو أغلى عندهم من كل شيء ومن أي أحد. فهل من العلمانية في شيء أن تهين مجنونا لم يؤذك؟ هل من الإنصاف، في العلاقة بين بشر وبشر، أن يستغل أحدٌ ما حرية التعبير لكي يسيء للآخرين؟

حتى المجانين لهم حقوق. والمسلمون ليسوا مجانين. واحترام معتقداتهم لا يضر العلمانية بشيء على الإطلاق. ولكن عندما تتحول العلمانية إلى غطاء للعنصرية، أو لموقف يميني متطرف يتقصد الإساءة والتجريح، أو حتى للتصرف الغبي، أو للكوميديا السخيفة، كما تفعل “شارلي إيبدو”، فإن الأمر لا تعود له أي علاقة بقيم العلمانية. السخيف سخيف في النهاية.

ولقد وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه في زلة قدم متعمدة، وجاهلة حقا، عندما أعلن تمسكه بالسخف بوصفه جزءا من حرية التعبير.

هذا موقف هو نفسه متطرف. ليس لأنه جارح فحسب، بل لأنه عنيد، ويتعمد سوء الفهم أيضا.

لا يهم كم هو ضار عندما يتحول إلى فرصة انتهازية يستغلها رجب طيب أردوغان ليغطي بها أعماله العدوانية واستفزازاته وجرائمه، ليظهر وكأنه يدافع عن الإسلام. ولكنه ضار عندما يُصبح تعلة للمزيد من الانعزالية والتطرف. ذلك شيءٌ يشبه صب المزيد من الزيت على النار.

هل لا توجد أزمة في الإسلام؟ بلى، توجد أزمة. ولكنها أزمة ثقافة بالدرجة الأولى؛ أزمة مرجعيات فقهية لم تتمكن من مواكبة العصر. كما أنها لم تتمكن من مواكبة القيم الإنسانية الرفيعة للإسلام نفسه.

هذه مفارقة، قد تبدو عجيبة فعلا. ولكنها قائمة، ويعاني المسلمون من عواقبها أكثر من غيرهم. إنها دليل واضح على مدى الضياع الذي يعيشون فيه. لا هم تمكنوا من إقامة نظام حكم رشيد في معظم بلدانهم، ولا هم تمكنوا من التخلص من مظاهر الفساد والاستبداد، ولا هم أقاموا أنظمة قانون تحفظ قيم العدالة والمساواة. والإسلام من دون تلك القيم، يتحول إلى نص لا معنى له؛ نص خارج التاريخ. وبسبب من وضعه خارج التاريخ، فإنه سرعان ما أصبح نصا قابلا للتأويل المتطرف، ويبتعد أكثر فأكثر عن قيمه الإنسانية والتوحيدية الأساس. والمساوئ الحياتية كلها انقلبت إلى النص، لتفرض عليه ما ليس فيه، ولتقتفي منه ما لا يستقيم مع قيمه العليا.

كيف تواجه هذه الأزمة؟

آخر ما تحتاجه هو أن تواجهها بالنبذ والتهميش. وآخر ما يمكن أن تفعله هو أن تقدم لها حلولا أمنية، تلاحق التطرف بالطرق التي تمارسها أجهزة الأمن والمخابرات. هذه الطرق ربما تكون مفيدة كجرس إنذار، إلا أنها لا تشكل حائلا دون وقوع جرائم إرهاب.

التطرف بين المسلمين، ثقافة وليس تنظيما. ولهذا السبب يمكن أن يرتكب أحد ما جريمة قتل، من دون أن تكون له سابق صلة بأي تنظيم.

فرنسا لكي تعود فرنسا الأنوار يحسن بها أن تواجه مشاكلها مع العنصرية والتطرف اليميني والانتهازية الثقافية التي حولت العلمانية إلى أداة من أدوات الإهانة وليس من اللائق أن تتعالى العلمانية على المسلمين

التطرفُ هو قراءةٌ لبعض النص الديني دون بعضه الآخر. كما أنه تحميل ذو طبيعة تأويلية خارج طبيعته بالذات. التكفير الجماعي أحد أوجه ذلك التأويل، وهو يمتد ليشمل المسلمين أنفسهم وليس فقط أهل الديانات الأخرى. حتى أصبح مجزرة وحشية تهدد الجميع.

أين كان يجب أن تضع هذه المجزرة، مع حقيقة أن الإسلام ظل يتعايش مع المسيحية واليهودية، في علاقة شراكة في التوحيد لا علاقة تكفير؟

أين كان يجب أن تضعها مع النص القرآني نفسه الذي يقول “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة 62)؟

أين كان يجب أن تضعها مع النص الذي يترك الفصل بين الناس في إيمانهم وكفرهم لله وحده، وليس لأي بشر “إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِـِٔينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ” (الحج 17)؟

ولكن ثقافة القتل والتكفير غلبت في الاتجاه المضاد، حتى بررت قتل مصلين في كنيسة. شيء عجيب فعلا.

تنظيمات من قبيل الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش وغيرها، لا تحتاج أن تستقطب أعضاء جددا. يكفي أن تبث ثقافتها. فيتحول الإرهاب والجريمة إلى شيء مقدس يمكن أن يرتكبه أناس يبدون بسطاء وآمنين، وليست هناك علامات يمكن أن تلتقطها أجهزة المخابرات تدل على تطرفهم أو على استعدادهم المحتمل لارتكاب أعمال عنف.

المعركة بهذا المعنى هي معركة ثقافة، لا معركة شرطة. اللجوء إلى “الشُرطوية”، خيار غبي. ليس لأنه يصب الزيت على النار فحسب، ولكن لأنه ينحرف عن الطريق الصحيح، ويمكن أن يقود إلى كارثة اجتماعية حقيقية، وبالتالي كارثة أمنية أسوأ.

لا تنس حقيقة أن الملايين من المسلمين الفرنسيين يعيشون في ظل أوضاع مزرية حقا. الفقر والبطالة والتهميش كانت دافعا لعدة انتفاضات أصلا. النار موجودة. ولم تتمكن “العلمانية” الفرنسية من إطفائها، ولا من حماية حقوق المنبوذين والمهمشين. ولهذا فإنها لا تستحق حتى الدفاع عنها. ولا يمكن لضحايا الفشل فيها أن يعتبروها شيئا يستحق الاحترام من الأساس. ومن السهل بالتالي، أن يجدوا أنفسهم يبحثون عن إطار ثقافي مضاد. وفي الغالب، فإن أول ما يعثرون عليه هو ثقافة الفشل التاريخي على الطرف الآخر.

الإسلام الغريب عن الإسلام، معضلة يتعين على المسلمين أن يواجهوها بأنفسهم. وما لم تكن الثقافة الفرنسية قادرة على مساعدتهم، أو على استيعاب المسلمين، فهذه مشكلتها الخاصة التي يتعين على المثقفين الفرنسيين أن يواجهوها بأنفسهم أيضا.

العلمانية الشرسة أو العدوانية، أو التي تجرؤ على توجيه الإهانات، لا تخدم نفسها، ولن تنجح في كبح التطرف ولا حتى بعد مليون سنة، لأنها تغذيه.

العقلانية، في نهاية المطاف، هي السبيل الصحيح، على الجانبين.

المسلمون يخوضون الحرب ضد التطرف. ولكنهم، في الغالب، يفشلون في توفير قراءة عقلانية للنص الديني. وعندما تكون لهذا النص مقاصد حياتية، فإنهم يفشلون أيضا في تنظيمها على نحو يتلاءم مع مجرى التاريخ.

ويحسن بفرنسا، لكي تعود فرنسا الأنوار، أن تواجه مشاكلها مع العنصرية والتطرف اليميني والانتهازية الثقافية التي حولت العلمانية الى أداة من أدوات الإهانة والتجريح. وليس من اللائق أن تتعالى العلمانية على المسلمين قبل أن تحل مشاكلها مع عار العنصرية والتمييز والتهميش الذي تعيش فيه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: