الغموض يخيم على استفتاء شعبي لدستور جزائري يغيب عنه عرّابه الأول

ضغط الرئيس عبدالمجيد تبون، الذي نُقل إلى مستشفى في ألمانيا هذا الأسبوع، من أجل إجراء استفتاء على دستور جديد في إطار مساعيه لطيّ صفحة الاحتجاجات التي أطاحت بسلفه وزلزلت النخبة الحاكمة. لكنّ غيابه المفاجئ عن استفتاء اليوم الأحد بسبب أزمته الصحية يربك حسابات السلطة التي تريد تمرير أجندتها عبر التعديلات الدستورية المقترحة، ما يجعل الغموض يحيط بنتائج استفتاء يراه طيف واسع من الشارع والمعارضة إجراء صوريا زائفا.

يتوجه الجزائريون في ظروف صحية استثنائية، للاستفتاء على التعديل الرابع على التوالي خلال العقدين الأخيرين على دستور البلاد، في أجواء من الغموض والشك حول مصير وجدوى الاستحقاق في تحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة وأن تعديلا سابقا لم تمر عليه أكثر من أربع سنوات انتهى إلى أزمة سياسية أطاحت بالرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.

وسيكون أكثر من 24 مليون جزائري على موعد الأحد، للإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري الجديد، وتحت شعار “نوفمبر 1954: التحرير.. نوفمبر 2020: التغيير”، تكون السلطة الجديدة أمام محك استعادة شرعيتها السياسية المشروخة بسبب العزوف الكبير خلال الانتخابات الرئاسية التي أفرزت عبدالمجيد تبون رئيسا للبلاد في ديسمبر الماضي.

ويحمل الاستفتاء طابعا استثنائيا بامتياز، فإلى جانب الظروف الصحية المقلقة بسبب المخاوف من تفشي وباء كورونا، بعد أن سجلت إحصائياته ارتفاعا محسوسا خلال الأيام القليلة الأخيرة، تخيم على البلاد أجواء من الفتور السياسي مما يوحي إلى تكرار سيناريو العزوف الشعبي، ليضاف إلى الأصوات الرافضة له، خاصة وأن مناصرين سابقين للسلطة باتوا هم أول الداعين لإسقاط الوثيقة.

ورغم حشد السلطة لكل إمكانياتها وأذرعها السياسية والإعلامية وفعاليات المجتمع المدني لإقناع الشارع بالمشاركة القوية وتزكية الدستور الجديد، إلا أن الغياب المفاجئ للرئيس عبدالمجيد تبون عن البلاد لأسباب صحية نقل على إثرها إلى ألمانيا بحسب ما أعلنت عنه الرئاسة الجزائرية، أعاد سيناريو الشغور الرئاسي المسجل خلال السنوات الماضية بسبب مرض الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.

ورغم التعاطي المستمر لمديرة الإعلام الرئاسي مع وضع رئيس البلاد، حيث أصدرت أربعة بيانات منذ إصابة الرئيس بوباء كورونا، إلا أن الغموض والقلق عادا ليخيما على البلاد بسبب الشفافية غير المكتملة في التعاطي مع ملف صحة الرئيس، وعاد معه سيناريو الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.

وطمأن البيان الأخير للرئاسة الرأي العام، حول ما وصفه بـ”نجاح الفحوصات الطبية لرئيس الجمهورية واستقرار حالته الصحية”، إلا أن غياب الرجل عن الاستحقاق الدستوري، وعن الموعد الذي يحمل رمزية تاريخية لدى الجزائريين (عيد ثورة التحرير المصادف للفاتح من نوفمبر)، يكون الاستفتاء قد فقد عرابه الأول في الموعد الرئيسي، خاصة وأن السلطة كانت تنوي استغلاله في تمرير أجندتها وفي ترميم شرعيتها المهزوزة.

وأعلنت الهيئة المستقلة لتنظيم الانتخابات عن تسجيل نسبة مشاركة قدرت بـ11 في المئة في اليوم الأول من استفتاء البدو الرحل والمناطق النائية التي انطلقت الخميس، بينما باشرت الجالية المهاجرة العملية بداية من السبت في كبرى العواصم والمدن الأوروبية والعربية والأميركية، في أجواء ميزها الفتور وغياب الحماس.

الغموض والقلق عادا ليخيّما على البلاد بسبب الشفافية غير المكتملة في التعاطي مع ملف صحة الرئيس عبدالمجيد تبون

وذكر بيان السلطة المستقلة للانتخابات، بأن “مكاتب التصويت التابعة للدوائر الدبلوماسية والقنصلية بالخارج، فتحت أبوابها أمام الجاليات الجزائرية في دول الإمارات والعراق، وسوريا، والسعودية، والكويت، وقطر، ومصر، والبحرين، وسلطنة عمان، وروسيا، والنيجر، والمكسيك”.

كما تتواصل عملية الاستفتاء في المكاتب المتنقلة بأقصى الجنوب في ولايات أدرار، الأغواط، بشار، تمنراست، ورقلة، إليزي، تندوف، الوادي والنعامة، وبلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء في المكاتب المتنقلة في اليوم الأول 11 في المئة.

ويعد التعديل الدستوري المذكور الرابع من نوعه في العقدين الأخيرين، ثلاثة أجراها الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، والرابع أقره الرئيس تبون، ورغم وصفه بـ”العميق”، إلا أن الظروف التي أحاطت به منذ الإعلان عن المسودة الأولية لم تحقق التوافق المنشود، بسبب مضامينها الخلافية المتصلة بالهوية ورفع الحظر الدستوري عن دور ومهام المؤسسة العسكرية.

ورغم كثرة التعديلات الدستورية في البلاد خلال العقدين الأخيرين بمعدل دستور لكل رئيس على الأقل، إلا أن البلاد لم تبرح الأزمة المستشرية التي تتخبط فيها، وعجزت عن تحقيق تطلعات شعبها، إذ انتهى تعديل العام 2016، برأي متابعين، إلى أزمة عميقة أبانت شرخا كبيرا بين السلطة والشارع بعدما وضع صلاحيات إمبراطورية في يدي رئيس البلاد وجرد المؤسسات الأخرى من مهامها ودورها في تحقيق التوازن المطلوب بين المؤسسات.

وذكر الخبير الدستوري فوزي أوصديق، في تعليق له على الدستور الجديد، بأن “ماهية التعديلات تكون في الغالب لإصلاح الاختلالات، إلا أن الوثيقة الجديدة كرست نفس الاختلالات، الأمر الذي يبقيه مجرد دستور أزمة ولا يستبعد أن يفرز أزمات سياسية لاحقة”.

وكان المسؤول السابق في الرئاسة محمد لعقاب، والذي سبق له أن شغل منصب مدير حملة عبدالمجيد تبون خلال الحملة الانتخابية للرئاسيات الأخيرة، قبل أن يقال من منصبه بعد تكليفه بملف الدستور، قد صرح خلال الكشف عن مسودته، بأن “التعديلات العميقة أملتها متطلبات خارجية في ما يتعلق بتكييف المنظومة التشريعية المحلية مع مبادئ وتوصيات المنظمات الدولية، ومع رغبة شركاء وقوى فاعلة تريد مساهمة الجيش الجزائري في مهام خارج حدوده الإقليمية”.

وعشية الاستفتاء، دعت أحزاب إسلامية وقوى محافظة محسوبة على السلطة الجديدة، إلى التصويت بـ”لا” على الدستور، وبررت موقفها بـ”تنافي الوثيقة مع قيم وثوابت وشخصية المجتمع الجزائري”، ولم تتوان في اتهام مهندسيه بالخلفيات العلمانية المتلاعبة بثوابت البلاد.

وإن لم يكن موقف حركتي مجتمع السلم، والنهضة، وجبهة العدالة والتنمية، مفاجئا للرأي العام، فإن انخراط حركات سياسية قيد التأسيس معروفة بولائها للسلطة كحركة “عزم”، يكرس حالة عدم التوافق على الوثيقة الدستورية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: