في تفسير للتصالح الإماراتي مع المغرب؟
أعاد إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة فتح قنصلية لها بمدينة العيون في الأقاليم الجنوبية للمغرب السؤال عن طبيعة العلاقات المغربية الإماراتية، وما إذا كانت هذه الخطوة بمثابة تبديد للتوتر الذي ساد بين البلدين طوال الفترة الأخيرة وإعلان تصالح من جهة الإمارات؟
المثير في الموقف أن هذه الخطوة تم الإعلان عنها في بلاغ للديوان الملكي، على عكس أخبار مماثلة تتعلق بفتح دول أخرى لقنصلياتها في الأقاليم الجنوبية للمغرب.
لكن مع ذلك لا ينبغي أن يذهب التأويل بعيدا، فإن الإعلان عن هذه الخطوة عبر الديوان الملكي، ارتبط بمكالمة هاتفية أجراها العاهل المغربي مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وأن هذا هو البروتوكول المعتمد في البلاغات الملكية، حينما يتعلق الأمر بمكالمة هاتفية ذات طابع سياسي ذي أثر، لاسيما إن تعلق بملف الوحدة الترابية
بيد أن هذه الخطوة تحتاج إلى وقفة خاصة، فهي لا تعكس فقط تحولا في الموقف الإماراتي تجاه المغرب، بعدما أخذ مسارا معاديا للوحدة الترابية، من خلال جملة تعبيرات إعلامية تم تصريفها عبر بعض قنواتها الإعلامية، وإنما تعكس في المقابل، إعلانا من جهة واحدة عن تصالح مع المغرب، حاولت الإمارات أن تقدم برهان صدق نيتها فيه عبر تصحيح موقفها بإزاء موضوع الصحراء، والقيام بخطوة أصبحت تدخل اليوم من متطلبات السياسة الخارجية المغربية لكسب ملف الصحراء، أي توسيع شبكة التمثيليات الدبلوماسية الدولية في الأقاليم الجنوبية.
وإذا كان المغرب قد أحسن إدارة فترة توتر العلاقات مع الإمارات من خلال ضبط النفس وعدم الاستجابة لطلباتها في العديد من الملفات، وتصرف الجواب الإعلامي عنها بعيدا عن القنوات الرسمية، فإن الإخراج الإعلامي لخطوة التصالح الإماراتي كما عبر عنه البلاغ الملكي اتسم بكثير من الأناقة، إذ أورد الخبر ضمن سياقه (مكالمة هاتفية بين ملك المغرب ومحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي) ثم الإعلان عن الخطوة، وذكر خلفية الموقف التاريخي للإمارات من ملف الوحدة الترابية (مشاركتها في المسيرة الخضراء) وكونها الدولة العربية الأولى التي سارعت إلى فتح قنصليتها بمدينة العيون.
فما من شك أن ذكر هذه الخلفية التي تذكر بموقف الإمارات التاريخي، إنما جاءت جوابا عن مبادرة التصالح الصادرة من الإمارات تجاه المغرب، بعد مناكفة طويلة دامت لشهور عدة، تأذى منها المغرب، دون أن يفقد هدوءه الدبلوماسي المعروف عليه.
البعض حاول أن يقرأ في هذه الخطوة التصالحية معاني أخرى مرتبطة بملف التطبيع أو ملف الإسلاميين في مربع الحكم، وأن توافقا بين البلدين حصل على هاتين الأجندتين، لاسيما وأن هناك تغريدات لمسؤولين إسرائيليين تتحدث عن قرب توقيع المغرب لاتفاق تطبيعي مع الكيان الصهيوني.
والحقيقة أن أسلوب المغرب في إدارة هذه الملفات يختلف كثيرا عن أسلوب عدد من البلدان التي قايضت بين سيادتها واستقلالية قرارها السياسي وخضعت للابتزاز باستعمال أوراق موجعة، كما حدث لمصر أو السودان مؤخرا، كما أن مطامح الإسرائيليين لم تتوقف، ولم تتوقف الوعود الأمريكية والإسرائيلية بالحديث عن لائحة بخمس أو ست دول ستبرم الاتفاق لتحقيق كسب انتخابي من جهة، وخلق نوع من التضليل في الصف العربي لحفز الدول على تفكيك ممانعتها.
أحسن المغرب إدارة فترة توتر العلاقات مع الإمارات من خلال ضبط النفس وعدم الاستجابة لطلباتها في العديد من الملفات، وتصرف الجواب الإعلامي عنها بعيدا عن القنوات الرسمية
فليست هذه هي المرة الأولى التي يوضع فيه ملف الصحراء في مقابل ملف التطبيع، ومع ذلك، فقد تم التلويح بهذه المقايضة غداة زيارة كوشنر الأولى للمغرب، لكن المغرب أخذ زمنه السياسي والدبلوماسي الكافي من أجل التحلل من الضغوط أو الطلبات الدولية، لأن خبرته في إدارة ملف الصحراء جعلته، لا يثق بالفاعل الدولي ووعوده، وأن بإمكانه أن يخسر الملفين معا، أي أن يبقى ملف الصحراء كما هو عليه دون حلحلة للموقف لصالحه ولو جزئيا، وأن يخسر في الآن ذاته موقفه الثابت من القضية الفلسطينية، ويعرض موقعه الديني والرمزي للاستهداف، بحكم الصفة الدينية للملك كأمير للمؤمنين وتلازمها مع رئاسة لجنة القدس، لاسيما وأن أسوأ ما في ملف التطبيع والتجاوب مع صفقة القرن هو التفريط في الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها ملف القدس الشريف.
لقد أثبتت الخبرة الدبلوماسية للمغرب في إدارته لملف الصحراء، أن الخطر يأتي دائما من الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها طرف غير موثوق به في هذا الملف، وأن حاجياتها الانتخابية الظرفية، لا يمكن أن تغير أسلوبها في توظيف ملف الصحراء من أجل ابتزاز المغرب، واستثمار هذا الملف للتمكين لأجندتها في المغرب، أو منعه من تحقيق امتداده في العمق الافريقي. ولذلك، لا يمكن بحال أن تقرأ خطوة الإمارات باعتبارها خطوة تمهيدية لانضمام المغرب للائحة الدول التي ستبرم اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني.
من جانب ثان، ثمة حساسية شديدة من قبل المغرب لتدخل أي دولة في شأنه السياسي الداخلي، فقد تزامنت لحظة إسقاط حكم الرئيس محمد مرسي في مصر بأزمة حكومية في المغرب بسبب إقدام حزب الاستقلال على اتخاذ قرار بالانسحاب من الحكومة، وقد قرئ هذا القرار وقتها باعتباره جزءا من التكتيك السياسي لتحقيق سيناريو إنهاء حكم الإسلاميين في المغرب، ولم يتردد بعض المحللين لقراءة الحراك السياسي المغربي باعتباره صدى للضغوط التي تمارسها الإمارات والسعودية على المغرب، لكن الجواب المغربي، كذب هذه التوقعات، فأتمت حكومة العدالة والتنمية ولايتها، وتصدر الإسلاميون الانتخابات مرة ثانية، ولا يزالون إلى اليوم في مربع قيادة الحكومية، رغم أن ثابت إنهاء وجود الإسلاميين في الحكم لم يتغير في أجندة الإمارات.
قد يعترض على هذا الجواب باختلاف السياقين، وأن ما يثار من جدل حول القاسم الانتخابي، يؤكد وجود نية للسلطة السياسية في البلد في إنهاء حكم الإسلاميين والتماهي بذلك مع الأجندة الإماراتية، والواقع أن هذا التحليل، يفترض وجود المغرب في حالة ضعف، ويفترض في المقابل، أن دولة الإمارات توجد في وضع يسمح لها بممارسة ضغوط على المغرب، مع أن السياقين من هذه الزاوية، يبرزان المفارقة، فوضع الإمارات من حيث نفوذها الإقليمي كان لحظة خريف الديمقراطية أقوى بكثير من وضعها اليوم، فقد كان امتدادها قويا في ليبيا واليمن، وقد حققت عبر أذرعها الإقليمية نقاطا كثيرة على الأرض، لكنها اليوم، في وضع أسوأ، بسبب احتراق ورقتها في ليبيا (حفتر) وعودة الأطراف الليبية من خلال اتفاق بوزنيقة إلى جزء مهم من مرجعية اتفاق الصخيرات، كما أن النفوذ التركي في ليبيا جعل الإمارات تعيش وضعا لا يحسد عليه، ناهيك عن وضعها في اليمن، وتراجع قدرتها على تمويل أذرعها الإقليمية بحكم تداعيات كورونا على اقتصادها، ومعاناتها من أزمة السيولة المالية.
التقدير، أن ما دعا الإمارات إلى التصالح ليست هي الملفات التي يمكن أن تستثمر لمقايضة المغرب على مصالحه الحيوية، وإنما فشل الإمارات في تنفيذ أجندتها والعزلة التي دخلت فيها، وحاجتها إلى فكها، وإنتاج دينامية جديدة، تغطي على إخفاقاتها وتصحح بها جزءا من الصورة.