فرنسا: إرهاب فردي وتجريم بالجملة؟

تعرّضت مجموعة من المصلين الأبرياء في كنيسة نوتردام في مدينة نيس الفرنسية إلى هجوم وحشيّ وذلك على يد مهاجر غير شرعيّ من تونس، ويأتي هذا الحادث بعد فترة قصيرة من تعرّض مدرّس فرنسي إلى حادثة اغتيال على يد متطرّف فرنسي مسلم من أصل شيشاني.
حصلت الجريمتان على خلفيّة توتّر متصاعد بعد انعطافة سياسية يمينية متطرّفة واضحة من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي جاء إلى السلطة ببرنامج معتدل طرح التصالح مع بلدان الاستعمار الفرنسي السابقة، ومع الفرنسيين من أصول إسلامية، حيث اكتشف فجأة أن «الإسلام في أزمة» وأن «قيم الجمهورية» الفرنسية تتعرض لتهديد من قبل «الانفصالية الإسلامية» وتبع ذلك إعلانه، بعد المقتلة الوحشية للمعلم الفرنسي، عن دعمه لنشر كاريكاتورات تسيء لرسول الإسلام باعتبار ذلك «حرية تعبير» مما أدى إلى موجة من الفعاليات والتصريحات الاستنكارية في مجمل العالم الإسلامي.
حظيت الجريمتان باستنكار عالميّ عام، لم تشذ عنه أي دولة إسلامية بما فيها المشتبكة مع فرنسا سياسيا، وفي المقابل فقد انقسمت مواقف العالم حول سياسات فرنسا الجديدة إلى تيارين رئيسيين: الأول يرفض الإساءة للرسول، وشاركت فيه دول كثيرة، أغلبها إسلامية وعربية (بما فيها بعض حلفاء فرنسا العرب) والثاني، وأغلبه من الدول الأوروبية، يساند الموقف الفرنسي رغم اختلاف السياسات الداخلية فيها تجاه المسلمين والإسلام عن سياسات فرنسا.
يشير الاستنكار الإسلامي والعربي للجرائم الإرهابية (في فرنسا وأي مكان في العالم) إلى إجماع على رفض تلك الجرائم، غير أن الإشكالية التي تطلّ برأسها بعد ذلك هي في الخلاف الحاصل بين اعتبار أغلب الدول والجهات الإسلامية هذه الجرائم قضايا فرديّة يمكن أن تحصل في أي زمان ومكان، وبين اعتبار ماكرون، وتيّار كبير وراءه، أن المشكلة هي في الإسلام نفسه، وبالتالي في المسلمين، وبذلك يتحوّل الإرهاب الفردي إلى تجريم بالجملة لمليار ونصف المليار مسلم يحملون، من دون أن يعرفوا، جينات الإرهاب حين يولدون، ويصبحون خطرا على العالم لمجرد كونهم مسلمين.
لقد تابع العالم، وخصوصا المسلمين، برعب، انتشار أشكال من هذا الخطاب والممارسات التجريمية لشعوب بأسرها، كما حصل مع أقلية الروهينجا في بورما، وما يحصل للأويغور المسلمين في الصين، بل وكما يحصل مع الفلسطينيين الذين يعتبرهم «المتفوّقون» البيض الإسرائيليون شعبا إرهابيا بالفطرة.
إضافة إلى خطورته على المسلمين أنفسهم، فإن هذا المنطق يعرّض السلم الأهليّ في بلدان الديمقراطية الغربية إلى خطر، فلسنا بحاجة للابتعاد كثيرا في التاريخ الأوروبي لنتذكر أن هذه الآراء نفسها استخدمت ضد اليهود وحتى المسيحيين (البروتستانت في فرنسا والكاثوليك في بريطانيا) وأنها تسببت بكوارث إبادة جماعيّة للملايين، وهي تبدأ بالدفاع عن هويّة محددة (تفوق البيض والآريين مثلا) لكنها تنتهي بكوارث على مجمل السكان، بمن فيهم «المتجانسون» مع قيم النظم الحاكمة.
من حق السلطات الفرنسية، وأي سلطات في العالم، حماية بلدانها من الجرائم الإرهابية التي يتعرض لها مواطنوها، غير أن خطاب تجريم مجموع المسلمين لا يساهم أبدا في حماية تلك البلدان بل يؤجج أشكال التطرّف من الجهتين، ويعزّز، من جهة أخرى، أنماط الاستبداد القائمة في البلدان العربية والإسلامية، والتي هي من الأسباب الأساسية في انتشار التطرّف والإرهاب.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: