المغرب يتوخى دبلوماسية القنصليات لإضفاء مشروعية سيادته على الصحراء

تلقت جبهة البوليساريو الانفصالية هزيمة دبلوماسية أخرى بعد أن تمكن المغرب من تحقيق مكاسب مهمة في ما يتعلق بملف الصحراء، فقد اعتبر مراقبون سياسيون أن زخم مبادرة الحكم الذاتي للإقليم، والتي أعلنها العاهل المغربي الملك محمد السادس وحظيت بقبول من أطراف في المجتمع الدولي، تعزز بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة بعد أن اتبعت الرباط دبلوماسية القنصليات، في خطوة تكرس أحقيتها بهذه المنطقة.

أضفى المغرب على أحقيته بإقليم الصحراء طابع الواقعية الدبلوماسية، فقد استطاع أن يمر إلى السرعة القصوى في مستوى تعزيز تحالفاته للدفاع عن مصالحه الاستراتيجية السياسية والاقتصادية في تلك المنطقة حينما انضمت دول إلى استراتيجية افتتاح قنصليات لها هناك.

ويتوالى تدشين قنصليات في الصحراء المغربية، والذي ترفض جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، مبادرة الملك محمد السادس للحكم الذاتي لفض مشكلة الإقليم، حتى بلغ عددها 15 قنصلية أفريقية، وهو تطور لافت أكسبته الإمارات زخما باعتزامها افتتاح قنصلية لها، في خطوة غير مسبوقة عربيا.

وخلال اتصال هاتفي أجراه العاهل المغربي الملك محمد السادس، مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، قال الأخير إن بلاده قررت “فتح قنصلية عامة بالعيون”، بحسب بيان للديوان الملكي المغربي، الثلاثاء الماضي.

ويرى محللون سياسيون أن ما تشهده الصحراء المغربية اليوم هو استراتيجية دبلوماسية وتنموية جديدة تنتهجها الرباط بهدف تعزيز سيادتها على الإقليم، وبالتالي اكتساب دعم إقليمي ودولي يقوي طرحها للحكم الذاتي، مرجحين أن تفتتح المزيد من الدول، خاصة العربية، قنصليات لها.

سياسة الأمر الواقع

تاج الدين الحسيني: فتح 15 قنصلية في الإقليم يؤكد أحقية المغرب بالصحراء

يرى المغرب منذ سنوات أن الحل السياسي لقضية الصحراء ليس ممكنا إلا ضمن تصور سياسي إداري ودستوري يسمح لسكان الصحراء بإدارة شؤونهم المحلية على مختلف المستويات، ما يعني احترام الوحدة الترابية للبلاد، فذلك هو المدلول الفعلي والغاية الممكنة لعملية البحث عن الحل السياسي المتوافق عليه.

ولكن مع اتباع الرباط استراتيجية الأمر الواقع من خلال الحلول السلمية ووفق القانون الدولي، يبدو أن الأمر سيكون أكثر فاعلية على أساس أن اعتراف العديد من الدول بإقليم الصحراء من خلال افتتاح قنصليات لها في تلك المنطقة سيشكل منعطفا جديدا للضغط على جبهة البوليساريو للقبول بحل الحكم الذاتي عاجلا أم آجلا.

وبانضمام الإمارات إلى “دبلوماسية القنصليات” المغربية، سيزداد على الأرجح إقدام دول عربية على الخطوة لأنها ستمنح المغرب دعما كبيرا لإثبات صواب سياسته تجاه الإقليم الصحراوي، وخاصة بعد أن أعلن وزير الخارجية ناصر بوريطة عند افتتاح قنصليتي زامبيا ومملكة إسواتيني بمدينة العيون، كبرى مدن الإقليم الثلاثاء الماضي، أن عدد القنصليات بالصحراء بلغ 15 قنصلية، ثماني منها بالعيون وسبع في الداخلة جنوب الإقليم.

ويؤكد خبراء من بينهم تاج الدين الحسيني، الأكاديمي والخبير المغربي في العلاقات الدولية، أن فتح قنصلية في دولة ما هو إقرار بسيادتها على الإقليم، بحسب القانون الدولي، خاصة اتفاقية جنيف سنة 1963، لأن القنصلية هي مفتاح لتطوير العلاقات الإدارية والاقتصادية والتعاون متعدد الأطراف مع الدولة المعنية.

ورأى الحسيني خلال تصريحات لوكالة الأناضول، أن فتح 15 قنصلية في الإقليم يعبر بشكل واضح عن إقرار هذه الدول بسيادة المغرب على الصحراء قانونيا أو إداريا والتي لا تقبل الجدل، ووجود هذه القنصليات هو تأكيد لهذه السيادة.

وهذا الموقف هو نفسه الذي ذهب إليه عبدالفتاح الفاتيحي، الباحث المغربي في شؤون الصحراء والساحل، حينما أكد أن فتح عدد من القنصليات الأفريقية في الإقليم يتناسب مع القانون الدولي. وارتفع عدد القنصليات إلى سبع في الداخلة، بعد غامبيا وغينيا وجيبوتي وليبيريا، كما افتتحت ست دول أفريقية قنصليات لها في العيون، نهاية العام الماضي وبداية هذا العام، وهي كوت ديفوار وجزر القمر والغابون وساو تومي وبرينسيبي وأفريقيا الوسطى وبوروندي.

ويرى الفاتيحي أن قضية الصحراء تعرف تغيرا في الممارسة الدبلوماسية، وهو ما سيساهم في حسم الملف على المستوى الأفريقي ومستويات أخرى، خصوصا مع اعتزام الإمارات فتح قنصلية لها بالعيون. ولكن حتى بعض الدول العربية تشهد تغيرا في مواقفها تجاه الصحراء المغربية، فخطوة الإمارات تبدد عددا من مخاوف المغرب، بحسب الفاتيحي، خصوصا دور الإمارات المتنامي في موريتانيا ومنطقة الساحل، لاسيما في ظل تقارير إعلامية عن اعتزام الإمارات بناء ميناء كبير بمدينة نواذيبو الموريتانية، بعد قرار بلاده فتح ميناء بالداخلة.

هناك تغير في مواقف عدد من الدول الأفريقية حيال قضية الصحراء، خصوصا بعد عودة المغرب إلى عضوية الاتحاد الأفريقي في يناير 2017

وبينما اعتبر الفاتيحي أن الخطوة الإماراتية ستشكل إشارة إلى دول عربية أخرى لفتح قنصليات لها بالصحراء ومن المتوقع بالفعل أن تفتح دول عربية وغربية قنصليات لها، رأى تاج الدين الحسيني أن خطوة الإمارات ستبدد الضبابية التي طبعت العلاقات بين البلدين خلال السنوات القليلة الماضية. وبعد سنتين من علاقات متوترة، بلغت حد سحب سفيريهما، عيّن المغرب، في يوليو الماضي، محمد حمزاوي سفيرا في أبوظبي، وردت الإمارات في أغسطس الماضي، بتعيين العصري الظاهري سفيرا لها بالرباط.

وللخطوة الإماراتية أهمية، فأبوظبي تمتلك وزنا استثنائيا بمنطقة الخليج ودوليا وتشكل محورا أساسيا في التوازن الإقليمي. ومن المتوقع أن تحذو بقية دول الخليج ودول عربية أخرى حذو الإمارات، وتفتح قنصليات لها، خصوصا أن لهذه الدولة أهمية كبيرة في اتخاذ القرار بمنظمات دولية.

وكانت سلطنة عمان قد أعربت الخميس الماضي، أمام اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، عن دعمها لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدمت بها المملكة المغربية كـ”حل نهائي” للخلاف الإقليمي حول الصحراء المغربية. وأكد وفد عُمان الدائم لدى الأمم المتحدة، عبر بيان مكتوب قدم للجنة ونشر على موقع الأمم المتحدة، “تدعم بلادي مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية التي تقدمت بها المملكة المغربية للمجتمع الدولي كحل نهائي لهذا الملف”.

ويفهم العارفون بمثل هذه المواقف الدبلوماسية أن خطوة سلطنة عمان قد تكون الدولة الخليجية التالية، التي قد تفتح قنصلية لها في الصحراء المغربية، وهو ما يعتبر انتصارا جديدا للرباط في تكريس أحقيتها بتلك المنطقة.

نجاح دبلوماسي

عبدالفتاح الفاتيحي: قضية الصحراء تعرف تغيرا في الممارسة الدبلوماسية

لقد بدأت قضية الصحراء عام 1975 إثر إنهاء الاحتلال الإسباني، ليتحول النزاع بين المغرب والبوليساريو من جهة، وبين هذه الأخيرة وموريتانيا من جهة ثانية إلى نزاع مسلح استمر حتى عام 1979 مع موريتانيا التي انسحبت من إقليم وادي الذهب، قبل أن تدخل إليه القوات المغربية، بينما توقف القتال مع المغرب عام 1991 إثر اتفاق لوقف إطلاق النار.

ومنذ ذلك التاريخ، بدأت الرباط في اتباع دبلوماسية وصفت بـ”الناجحة” حتى تقنع المجتمع الدولي بأحقيتها بالإقليم دون الدخول في صراع مسلح. وطبعا وصلت إلى مبتغاها إلى حد بعيد بفضل رؤية الملك محمد السادس.

وهناك تغير في مواقف عدد من الدول الأفريقية حيال قضية الصحراء، خصوصا بعد عودة المغرب إلى عضوية الاتحاد الأفريقي في يناير 2017 بعد أن انسحب في 1984 من منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد حاليا)، احتجاجا على عضوية ما تسمى بـ”الجمهورية الصحراوية”، التي شكلتها البوليساريو من طرف واحد.

ويعتقد محمد الغالي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض المغربية، أن الرباط تنتهج استراتيجية جديدة، بعدما رفضت البوليساريو مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب عام 2017، فالرباط تنتهج دبلوماسية اقتصادية وسياسية تعتمد على ربط مبادرة الحكم الذاتي بسياق دولي يحتاج للأمن والاستقرار.

ولا يخرج تسارع وتيرة فتح دول أفريقية قنصليات لها بالصحراء عن ذلك المسار، حيث يؤكد التجاوب مع مبادرة الحكم الذاتي تلك المقاربة، حيث يقول الغالي إن اعتزام الإمارات فتح قنصلية لها يحمل إشارة قوية بأن الدول العربية أيضا يجب أن تفتح قنصليات لها بالصحراء، على غرار الدول الأفريقية.

وفي هذا السياق، فسر عبدالفتاح البلعشمي، رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات بالرباط، أن المغرب اتبع منذ 2016 استراتيجية سياسية ودبلوماسية واقتصادية وتنموية تعمل على إفهام جيد للقضية. ومع بداية أزمة فايروس كورونا، ظهر توجه دولي لحل النزاعات السياسية بأبعاد اقتصادية وتنموية، وليس بأبعاد سياسية، وهو ما مكن بلاده من أرضية صلبة لتنفيذ استراتيجيتها على الأرض.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: