الجزائر: دستور ضد الدولة
الجزائر بلد غير ديمقراطي، لأن دساتيره توضع دائما لأنظمة تتعاقب على الحكم، وليس لدولة تتمتع بشخصية اعتبارية، وتتوفر على خاصية الدائمية. واستمرار هذا الوضع هو الذي يبطل الاستفتاء المقبل على دستور لنظام جديد، يُكلف لإدارته هذه المرة رئيس جديد عيّن نكاية وشماتة في بوتفليقة. فمنذ دستور أحمد بن بلة عام 1963، إلى اليوم والدساتير الجزائرية تصاغ وتفَصَّل على مقاسات أنظمة لأشخاص وليس لدولة. فعندما يُخاض في الدستور ويُغيّر، حسب أنظمة الحكم، يفقد قيمته الإعتبارية والقانونية، كونه وثيقة أساسية لإدارة الدولة والمجتمع. كما أنه يؤكد حالة الارتياب والإرباك والتوتر الدائم، الذي يحكم نظام الحكم في صلته بالمجتمع، تكون دائما الدولة هي الخاسر الأكبر.
أصل الأزمة السياسية في الجزائر، أن نظام حكمها عسكري، يأبى بطبيعته التقيد بالدستور، والالتزام ببنوده ومواده، ويفضَّل دائما البقاء خارج السلطات التي حددها الدستور لنظامه، وليس لمؤسسات الدولة ذات البنية القارة والدائمة. وعليه، فإن الدستور الذي سيجري التصويت عليه يوم الفاتح من نوفمبر المقبل، سوف يحظى حتما بالقبول لأن آلية الاستفتاء الإيجابي عليه ضمنتها السلطة الحاكمة، عندما أخذت في الاعتبار مصالحها هي، لا مصالح دولة القانون والحق، فالأصل في وثيقة الدستور، إضفاء «الشرعية» على سياسة النظام القائم، وهو نوع من خطف واغتصاب ضمير الشعب طيلة وجود السلطة صاحبة الدستور.
في دولة ديمقراطية، النظام الانتخابي يقوم على نظرية الاحتمالات، بمعنى ليس كل شيء معروفا سلفا، بل تبقى دائما هوامش من التوقعات، قد تأتي على عكس ما ينتظر النظام، مثلما جاءت به أول وآخر انتخابات تشريعية ديمقراطية في الجزائر عام 1992، اضطرت السلطة العسكرية إلى إلغائها، فاتحة أبواب جهنم على الجزائر والجزائريين. أما الاستفتاء على الدستور المقبل فلا يقبل أي تحفظ، أو احتمال رفضه، بل رُتِّب كل شيء من أجل التصويت عليه بنعم، والصياغة النهائية له هي أول الشواهد وأقواها، مع شواهد أخرى مثل، تأمين الكتلة البشرية المقبولة والتزوير، والخطاب الوهمي المخاتل. استغلال فاحش للدين بمناسبة تدشين المسجد الأعظم، وانتهاك صارخ لتاريخ الحركة الوطنية بمناسبة إحياء ثورة أول نوفمبر. دستور النظام الحالي لا يحتاج إلى من يصوّت عليه، لأنه لا يتعامل مع مواطنين يندرجون في معادلة الدولة في مدلولها الحديث والمعاصر، فالذين سيُصوتون على الدستور المقبل هم الكتلة الهلامية التي يراهن عليها النظام، والموعود لهم بمناصب وفرص ربح على حساب الدولة ومؤسساتها، وعلى حساب أموال الشعب وممتلكاته. وتلك هي قصة الجزائريين مع الدساتير منذ عام 1963، كلها ساهمت بهذا القدر أو ذاك في توهين الدولة وهشاشتها، كان آخرها حكم عصابة غير دستورية.
دساتير الجزائر توضع دائما لأنظمة تتعاقب على الحكم، وليس لدولة تتمتع بشخصية اعتبارية، وتتوفر على خاصية الدائمية
وثيقة الدستور في بلد غير ديمقراطي مثل الجزائر، لا تصلح إلا لتسويغ تصرفات الحكم القائم، والاستناد إليها من أجل ضبط مرجعية له هو وليس للدولة والمجتمع، أي أن وثيقة الدستور عبارة عن ترتيب مؤقت لتصالح القوى الحاكمة بين قيادة أركان الجيش وممثلهم على مستوى السلطة المدنية. وكل دستور جديد هو عهد لحكم جديد يتم على مستوى القمة وليس له بمؤسسات وسلطات وأجهزة الدولة ومصالحها ومرافقها. الجزائر، بلد غير ديمقراطي لأن الإدارة هي حزب النظام الحاكم، الأمر الذي لا يوفر أي حياد أو نزاهة للانتخابات. وصفة التعالي على مصالح حكم الموالاة، لا يمكن أن تحصل إلا بعد تجربة في إرساء معالم الدولة ومحدداتها، خاصة منها عمومية وقانونية الإدارة. الحقيقة الغائبة في عمليات الانتخابات أنها تجرى تحت إشراف وعلم وما ترغب فيه الإدارة/ الحزب الحاكم الذي لا يتغير إطلاقا، بقدر ما يحوّل الانتخابات لمجرد استفتاءات لتزكية النظام القائم، الآلية الثابتة لتأمين وتأبيد الجماعة الحاكمة في نسخها المتوالية والمتناوبة. فقد استغلت السلطة الحاكمة الإدارة كحزب مرجعي تقوم بتنظيم وترتيب وإجراء الانتخابات والتحكم في نتائجها، وأمعنت في ذلك إلى اليوم، لأنه ليس لديها آلية أخرى، ولأن الحقيقة توجد خارج صناديق الاقتراع، أي في الميادين والساحات العامة والشوارع وحتى في الملايين من الجماهير، التي تضمر الرفض والتنديد بسلطة العساكر ودوائر الأمن.
الإدارة هي الحزب القوي الذي تمتلكه السلطة ضد أحزاب المعارضة، وضد الجماهير الغاضبة والأغلبية الصامتة. فالإدارة، بهذا المعنى، تَنِد عن قيود الدستور وعن المعقول من السياسة، فهي الأَدَاة والحَكَم، لا يمكن الطعن في نتائجها، لأنها أصلا وفصلا من صلب النظام ذاته، الذي يمثل سلطة اغتصبت الشرعية وصارت هي الدولة. وبناءً على هذه الاعتبارات والحيثيات، فأي معنى يبقى للتصويت على دستور، تمت صياغته من قبل سلطة وليس من طرف دولة، وأي معنى لوثيقة أساسية جاءت أصلا وقصدا من أجل بناء جماعة دولاتية في نسخة جديدة/ قديمة تعمل وفقا لدستور يوفر لها شرعية شكلية وطارئة، أي طيلة وجود الجماعة الحاكمة. وفي كافة الأحوال، أن الجزائر كبلد غير ديمقراطي، لايزال ينتظر الاستقلال الحقيقي، عندما يعني استقلال وحياد الإدارة، بدلا من أن تكون، كما هو واقع الحال، حزب السلطة القوي والنافذ والمؤهل دائما إلى كسب الرهان والاستحققات الانتخابية مهما كانت. فكل شيء يحَوّل إلى الهامش وغير مجد ولا يعدّ حدثاً، ما لم تزكِّيه السلطة عبر إدارتها الحزبية. وعليه، كما جرت العادة، فإن الذي يضمن دائما انتصار الإدارة كحزب للسلطة، أنها تتماهى مع الدولة، وتأخذ دائما من رصيدها ورأسمالها، من أجل تحقيق الانتصار المفروض أو الانتصار الخائب. فالنظام لا يعنيه مقايضة مقومات الدولة ومؤسساتها لكسب رهان التصويت فقط، على ما نلحظ ونحضر في الاستفتاء المقبل، حيث ساومت السلطة التصويت الشعبي بجملة من المقَدِّرات والحوافز، تنال من مؤسسة الدولة ذاتها، مثل أن تخفض نسبة الإصابات بكورونا مع اقتراب الاستفتاء. إنزال علامة النجاح في شهادة البكلوريا إلى تسعة من عشرين، أي ما دون القاعدة المعيارية وهي المعدل. استغلال الدين بحرمان الناس من شعيرة صلاة الجمعة والنيل من قيم التاريخ باستغلال الفاتح من نوفمبر، عدم مراعاة الخيبة العارمة التي لازمت مناقشة مسودة الدستور، حيث تبين رجاحة وقوة الرفض أكبر من القبول به، وليس أخيرا، المنّ بعطلة طويلة مجانية من أجل تمرير وثيقة الدستور، وكلها من رصيد الدولة ومقوماتها.
مع الاستفتاء على الدستور المقبل، تكون الجزائر قد شرعت فعلا في تقويض أركان الدولة ومؤسساتها، لأن نظام الحكم القائم لا يستند إلى قانون أساسي لدولة /أمة، بل إلى وثيقة ترتب حكمه إلى حين من الدهر، أبرز ملامحه ضياع منطقة القبائل والجالية الجزائرية في الخارج وعودة الحراك كمطلب لا مناص منه للخروج إلى المأزق الكارثي الذي تريد وثيقة الدستور التعامل معه وتسييره.