هل الرسوم أخطر ما يتعرّض له المسلمون؟
تناولنا الموقف الفرنسي من «حرية التعبير» بنقد لاذع في مقالنا السابق، أي قبل أسبوع وقبل أن تبدأ الحملة على فرنسا التي تزعّمها الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان.
ويتوجّب علينا اليوم أن ننظر في هذه الحملة وفي مدى إيفائها بالغرض الذي تدّعيه. أما قبل ذلك فلا بدّ لنا من أن نذكّر القراء بأننا لا نوفّر أحداً من الحكّام، وكل من يتابع هذا العمود الأسبوعي يعلم كم من سهام النقد وجّهها لأخصام الرئيس التركي العرب، حكام المملكة السعودية والإمارات المتحدة ومصر. فلم يعلّق أحد أو يكاد في أسفل تلك المقالات ليتّهم كاتبها بالعداء «الشخصي» لأي من الحكام المذكورين مثلما يزعم بعض كتاب التعليقات كلّما تناولنا الرئيس التركي بالنقد، وكأنه بطل معصوم وكل من يوجّه النقد إليه إنما يفعل ذلك بدافع «شخصي».
أما الحجة المكرّرة بأن تركيا، وهي دولة يزيد عدد سكانها عن الثمانين مليونا، تستضيف ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف المليون من اللاجئين السوريين، فنسأل إذا كان استقبال سوريا، وهي دولة احتوت على أقل من عشرين مليون نسمة في ذلك الوقت، لمليون ونصف المليون من اللاجئين العراقيين عندما كان العراق ساحة حرب، إذا كان ذلك الاستقبال من شأنه أن يشفع للنظام السوري عن كافة أذنابه. هذا وناهيكم بالطبع من لبنان الذي يستقبل الرقم القياسي العالمي في عدد اللاجئين نسبة لعدد السكان بما ينبغي أن يحرّم نقد حكامه بصورة مطلقة وفق المنطق ذاته.
فلنطمئن إذاً كل من يساوره شكّ في الأمر بأننا لا نستعدي «شخصياً» أيا من الحكام الذين ننتقد، بل لا تربطنا بأي منهم أي صلة «شخصية» كي يكون لدينا حقد «شخصي» إزاءه، وأن كل ما نتوخّاه هو القيام بالدور المنوط بصحافة تحترم قراءها، ألا وهو فضح النفاق من أي جهة أتى وتحذير الناس من الديماغوجيا، أي دغدغة المشاعر بغرض كسب العطف والتأييد السياسيين. وعلى من يختلف مع ما نقول أن يأتي بحجج أقوى ويبيّن لنا خطأ آرائنا وسوف نغيّر وجهة نظرنا لو تبيّن لنا أن ناقدنا على صواب.
هل أن الرسومات السخيفة أخطر من الاضطهاد الشنيع الذي يتعرّض له ما يزيد عن عشرة ملايين من المسلمين في مقاطعة سنجان (شين جيانغ) في الصين؟
وبعد هذه الديباجة التي فرضتها كثرة التعليقات في أسفل ما كتبناه قبل أسبوعين في نقد «العثمانية الجديدة» نأتي إلى موضوعنا لهذا اليوم. فإن الموقف الفرنسي الرسمي من قضية الرسوم التافهة يستحق بلا شك نقداً لاذعاً وذلك لخلطه بين تدريس «حرية التعبير» واستفزاز المشاعر الدينية في المدارس، وتعامله بمكيالين إزاء التحريض على الكراهية عندما يكون موجهاً ضد اليهود أو السود، من جهة، وعندما يستهدف الإسلام والمسلمين من جهة أخرى، كما شرحنا في مقالنا السابق. لكن لا بدّ لمن يريد أن يتدارك الوقوع فريسة للديماغوجيا وذرّ الرماد في العيون أن يتأمل في الأسئلة البسيطة التالية.
هل أن الرسومات السخيفة أخطر من الاضطهاد الشنيع الذي يتعرّض له ما يزيد عن عشرة ملايين من المسلمين في مقاطعة سنجان (شين جيانغ) في الصين؟ فأيهما أسوأ: حال المسلمين في فرنسا أو حالهم في الصين؟ والحقيقة أنها لمقارنة تكاد تكون عبثية إذ أن بشاعة ما يتعرّض له مسلمو الصين لا تُقارن البتة بوضع المسلمين في فرنسا. بل أيهما أسوأ، يا تُرى: حال المسلمين في فرنسا أو حالهم في الهند، حيث يتعرّض ما يناهز مئتي مليون من المسلمين إلى حملات عنصرية سافرة ومستمرّة من قبل الحزب العنصري الحاكم، فضلاً على حالة الحصار المفروضة على ملايين المسلمين في الكشمير؟ والحقيقة أن هذين السؤالين بغنى عن الإجابة لجلائهما.
وبالتالي، أفلا يستدعي الأمر لدى من لا تعميه الديماغوجيا أن يتساءل لماذا لا ينصح الرئيس التركي نظيره الصيني ورئيس الوزراء الهندي بفحص عقليهما، ولماذا لا يدعو إلى مقاطعة البضائع الصينية والهندية مثلما دعا إلى مقاطعة البضائع الفرنسية؟ والحال أن تركيا في عام 2018 (أحدث الأرقام المتوفرة على الإنترنت) استوردت من الصين بضائع تفوق قيمتها عشرين مليار دولار، كما استوردت من الهند ما قيمته سبعة مليارات ونصف المليار بما يزيد قليلاً عن قيمة مستورداتها الفرنسية (7,4). بل إن روسيا، التي لا نحتاج لتبيان عداء حكمها للإسلام والمسلمين، وتكفي الإشارة إلى الفظائع التي أشرف عليها شخصياً فلاديمير بوتين إزاء شعب الشيشان المسلم، روسيا إذاً تصدّرت قائمة مستوردات تركيا في العام المذكور بما بلغ 22 ملياراً، ووضع روسيا في المرتبة الأولى قبل الصين. هذا وناهيكم من أن تركيا استوردت في العام ذاته من دولة الاستعمار الصهيوني بضائع بقيمة تفوق 1,7 مليار دولار…
أفلا يشير ذلك التباين الفاقع في ردود الأفعال إلى أن الغرض من حملة الرئيس التركي على نظيره الفرنسي غير المسبوقة في العرف الدبلوماسي، إلا في الأسلوب البذيء الذي بات يتميّز به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والغرض من دعوة الرئيس التركي إلى مقاطعة البضائع الفرنسية، إنما يندرج في سياسة تصبو إلى تعزيز شعبيته في الداخل وتوسيع رقعة النفوذ التركي في الخارج؟ فإن الانسياق وراء الديماغوجيا إحدى كبرى المصائب التي تتهدّد الأمم، إذ إن عواقبه دائماً وخيمة، ولا بدّ لشعوبنا المقهورة أن تتدارك الوقوع في فخّ تصديق النفاق من أي جهة أتى.