حراك الجزائر: جدل التطهير والانكسار
“اللجنة الوطنية لتحرير المعتقلين”، أو الـCNLD، هي إحدى منظمات المجتمع المدني في الجزائر، التي انبثقت كهيئة اعتبارية وحقوقية بارزة على خلفية الانتفاضة الشعبية (“الحراك” في التسمية الشائعة)، وسرعان ما اتخذت صفة إحصائية لافتة؛ لأنّ نشطاءها عكفوا على إحصاء شبه يومي لحملات الاعتقال المتواصلة التي تشنها السلطة في غالبية المدن والبلدات الجزائرية.
لكنّ هذه الهيئة تؤشر، من جانب آخر، على حال الانحسار التي أخذ يعاني منها الحراك في مستويات شتى، أوضحها قدرة اللجان على استئناف المبادرة في التنسيق والحشد وتنظيم المسيرات بأعداد مقبولة؛ لم تعد ترقى إلى معدلات أسابيع الانتفاضة الأولى، بعد 22 شباط (فبراير) 2019، ولكنها أيضاً تراجعت إلى درجات سمحت للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن يتساءل، مؤخراً، عمّا إذا كان الحراك موجوداً أصلاً. جائحة كوفيد – 19 منحت السلطة غطاء شرعياً لمنع تنظيم التظاهرات والاعتصامات، استمدت منه سياسات جديدة في القمع والاعتقال والتنكيل، مقابل محاولات ذرّ الرماد في العيون عن طريق محاسبة بعض رجالات العهد السابق؛ فضلاً، كما يتوجب التشديد، عن سلسلة أسباب ذاتية آلت إلى هذا المظهر أو ذاك من ترهّل ديناميات الحراك ذاته، وقواه المحرّكة.
وليس من الإنصاف الافتراض بأنّ المشهد الراهن، بعد الانتخابات الرئاسية في (ديسمبر) الماضي، واقتراب موعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وهبوط نبض الاحتجاج في الشارع الشعبي؛ يرجّح عودة عقارب الساعة إلى ما قبل إزاحة عبد العزيز بوتفليقة، أو حتى إعادة عدّاد التغيير في الجزائر إلى نقطة الصفر. ليس هذا بسبب قوانين التاريخ الكبرى التي تسير دائماً إلى أمام، أياً كانت المعطيات الدالة على العكس، فحسب؛ بل كذلك لأنّ ما نجحت الانتفاضة الشعبية في إنجازه خلال هذه الفترة، القصيرة نسبياً، يصعب وأده تماماً وكأنّ أيّ تبدّل جوهري لم يطرأ على حياة الجزائر والجزائريين.
المنطق الأبسط، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، يقول إنّ نسبة الإقبال (الفعلية، لا الملفقة) على إقرار التعديلات الدستورية ستكون علامة أولى فارقة بصدد موقف الشارع الشعبي الرافض لبرامج السلطة الراهنة، والذي يواصل بالتالي الثورة على ركائز نظام قديم ما تزال ضاربة الجذور. ولعلّ المنطق ذاته يقول بأنّ سلوكيات أمنية أشدّ شراسة، خاصة في ميادين قمع الحريات والصحافة وحقّ التعبير والرأي والتجمع والتظاهر، سوف تتعاظم من جانب السلطة.
فإذا جاز النظر إلى هذا المشهد من زوايا جدلية، تأخذ بعين الاعتبار واقع قوى الثورة المضادة في الداخل، وإعادة إنتاج هذا أو ذاك من أنساق الهيمنة في النظام القديم، وشبكات الفساد التي لا يسهل اقتلاعها أو حتى تحييدها، من جانب أوّل؛ ومظاهر انحسار زخم الحراك، لأسباب سبق ذكرها وأخرى قد تطرأ في المستقبل القريب، من جانب ثانٍ؛ فإنّ في الوسع القول إنّ المشهد الراهن يسجّل انتصاراً لمركّب الاستبداد والفساد، العسكري/ الأمني/ الاقتصادي، الذي حكم الجزائر من خلف ظهر بوتفليقة.
ثمة، إلى هذا رابح لم ينتصر تماماً، ولكنه لم يُهزم نهائياً أيضاً، هو الشخصية الوطنية الجزائرية؛ ذاتها التي أسهب في الحديث عنها مناضل ومفكر وطبيب نفسي انتمى إلى الثورة الجزائرية رغم أنّ مسقط رأسه في جزر المارتينيك تفصله عن الجزائر بحار ومحيطات. ولقد ساجل فرانز فانون (1925 ــ 1961) بأنّ استئناف الشخصية الوطنية، بمعنى تأكيدها وتطويرها أو حتى إعادة خلقها في ميادين محددة، يتوجب أن يتصدّر أجندات ما بعد التحرر من الاستعمار، أسوة بأطوار بناء الدولة الوطنية حيث لا يجوز استبعاد احتمالات صعود الاستبداد وسيطرة الفساد.
ولعلّ أولى علامات “التطهير” الثوري الذي تنبأ به فانون، إزاء الثورة المضادة، بدأت لتوّها مع الحراك؛ ولا تقول سنن التاريخ إنها سوف تنكسر بعد جولة أولى أو ثانية أو ثالثة، أو أن يحمل الانكسار صفة قصوى نهائية.